محمد أمنصور الأدب كأفق أنطولوجي

بنيونس عميروش*

حينما التحقت بمدينة مكناس في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، كانت مُزهِرة باللقاءات والعروض المسرحية والمعارض التشكيلية، وهي الأنشطة التي ستعرف أوجها على امتداد سنوات التسعينيات. فعلاوة على أنشطة كلية الآداب ومكتبة «فندق الحناء» بالمدينة العتيقة، ظلت المدينة الجديدة دائرة الإشعاع والصَّدى، لكونها تتوفر على القاعات والمؤسسات الفاعلة من جهة: المعهد الفرنسي، المركب الثقافي محمد المنوني (المديرية الجهوية للثقافة)، القصر البلدي، قاعة الجهة (جهة مكناس تافيلالت)، المعهد البلدي للموسيقا التي تعتبر قاعتها الفضاء الأقرب والأنسب لتنظيم اللقاءات والمعارض الفنية. ومن جهة أخرى، لأن الفضاء المديني لـ «حَمْرِيَة» قائم على تصميم مركزي لامّ Convergent بهندسة مرورية في غاية السلاسة، بحيث يمكن الاستغناء عن السيارة في مَدارها.
في هذه الأجواء، وبحماسة الواثق، سرعان ما نسجت صداقات وعلاقات مع كتابها ومبدعيها على اختلاف مشاربهم وأجيالهم. فكان من الطبيعي أن يُلْفِت نظري ذلك الثلاثي الحيوي الحاضر والمشارك باستمرار: عبد الإلاه الطالحي (شاعر) وعبد الإلاه قايدي (باحث) ومحمد أمنصور. في مقابل أسلوب الكياسة والمهادنة لدى الأوَّلَيْن، يميل محمد أمنصور، الطالب الباحث حينها، إلى المجادلة والمواجهة. بطواعية، تفاعل تجاورنا بحكم انشغالنا الثقافي، بالرغم من اختلاف مُعْتَرَكَيْنا: هو يشتغل في حقل الأدب بينما أشتغل في مجال الفن. مع ذلك لم تسلم علاقتنا من بعض مواقف التعارض التي لم تخلّْف القطيعة أبدا، خاصة بعد أن استنتجت أن «محمد أمنصور رجل طيب، هو هكذا، وينبغي التعامل معه هكذا» كما سمعت ذلك من صديقَيْنا المشتركَيْن الباحثَيْن حسن يوسفي وهشام العلوي. من ثمة، ستتحول بؤر الخِلاف إلى توافق وتعاون مع الوقت، بعد أن تأكد كلانا أننا نحمل ذات الهواجس ونتقاسم نفس الصراعات الذاتية النابعة من ضغوط الواقع والذاكرة والموروث الذي شَكَّلنا، فيما نحتمي بنفس السلاح لمقاومة الألم، ونتخطى انكساراتنا عبر وعينا بتصريف الإرادة التعبيرية التي لا تبتغي – في نهاية المطاف – غير المساهمة الفعالة في إغناء الجسم الثقافي الوطني.
هكذا ظلت الصداقة المثمرة ميثاقنا المنتصر. من جهتي، ومنذ البداية، كنت أدرك حدة الإصرار وقوة العزيمة لدى الصديق الدكتور محمد أمنصور، وألامس الطاقة التي يبذلها في حفر مساره وتوكيد حضوره، في كتابة القصة والرواية والنقد والبحث العلمي، فيما أقدر قراره في طبع العديد من مُؤلّفاته على نفقته، في تحدٍّ واعٍ لعقبات النشر حينها. وبخصوص نشاطه الجمعوي، رافقت سَيْر آثاره الإيجابية في جمعية الباحثين الشباب في اللغة والأدب بكلية آداب مكناس، إلى أن انتخب رئيسا للجمعية بعد أن شَغَل منصب أستاذ التعليم العالي بشعبة اللغة العربية بكلية آداب جامعة المولى إسماعيل بمكناس، إذ عرفت هذه المرحلة استضافته للعديد من الفاعلين الوازنين مثل الراحل مؤخرا الأديب عبد الكريم غلاب والشاعر عبد اللطيف اللعبي والشاعر محمد بنيس والروائي محمد برادة وغيرهم، كما عمل على نشر أعمال عديد اللقاءات ضمن منشورات الجمعية، وهو الأمر الذي استعصى على كثير من الجمعيات «الكبيرة» بالرغم من توفرها على الإمكانات المادية. من ثم، فقد أبان عن حِرَفِيَّتِه في التنظيم ومصداقيته في استقدام مثل هذه الأسماء إلى فضاء الطلبة، ضمن استراتيجية ثقافية وبيداغوجية بالدرجة الأولى. في هذا الصدد كنت أسأله مازحا، عن كيفية التنظيم والتواصل دون استعمال الهاتف الجوال، وهو الرجل الذي لا يثقل جيبه بجهاز التلفون «المزعج»؟ فكان يجيبني: الأمر بسيط، الكل استوعب إلزامية الاتصال بشقتي عبر الهاتف الثابت، بعد الواحدة زوالا وبعد التاسعة مساء.
منذ نهاية القرن الماضي، اتخذ أمنصور إيقاعه في نشر مُؤَلَّفاته الموزعة بين النقد والإبداع: «خرائط التجريب في الرواية» (1999)، «استراتيجية التجريب في الرواية العربية المعاصرة» و»التجريب الروائي عند نجيب محفوظ» (2006)، «محكي القراءة» و»شهوة القصص» (2007)، وفي القصة القصيرة «النسر والألواح» (2000)، «القيامة الآن» (2001)، وفي الرواية «المؤتفكة» (2006)، «دموع باخوس» (2010) التي أبان فيها عن طاقة سردية رائقة تتمحور حول واقعة اختفاء تمثال «باخوس» من موقع وليلي، فيما خصص فصلا لعوالم التشكيل مستحضرا الفنان محمد القاسمي وأستاذنا حسن المنيعي الذي طالما تحلقنا حوله في وئام. لعل إدماج الفنون البصرية في الرواية عند محمد أمنصور، هو نتيجة لاهتمامه الدائم بالسينما والمسرح والفنون التشكيلية، وأشهد أنه من بين الأدباء القلائل الذين يمكن أن يسافروا لمشاهدة عرض مسرحي أو حضور افتتاح معرض فني، مثلما تنقل من مكناس إلى الرباط لحضور افتتاح معرض صديقنا الراحل حسين موهوب، والشيء نفسه بالنسبة لمعرضي بالرباط في 2011 على سبيل المثال لا الحصر. إنه الكاتب الذي يؤمن بكون الفن قابع في تخوم الأدب، ولذلك يحاور الأدب ويمارسه باعتباره أفقا أنطولوجيا.
في مطلع الألفية الجديدة، جمعتنا أعداد جريدة «الصحيفة» الأسبوعية، رائدة «الصحافة المستقلة»، خلال سنتي 2002 و2003، كان أمنصور ملتزما بعمود «مرايا السلمون» فيما كنت أنشر سلسلة «تجارب في التشكيل الغربي المعاصر». كما اجتمعنا على صفحات «الأخبار المغربية» الأسبوعية في 2003 و2004 من خلال عموده «منازل الكلام» وإشرافي على صفحة خاصة بالتشكيل تتضمن «أوراق جمالية» بتوقيعي. وقد تم ذلك بتحفيز من صديقنا الأديب والصحفي عبد العزيز كوكاس بصفته رئيس تحرير الصَّحيفَتَيْن. هكذا، ظل فِعل الكتابة نفسه من يخطط لوحدتنا، ويجعلنا في وضع تماس حيوي موصول بالتقاسم والتبادل والجدل البنّاء.
في سياق الصحافة وأدبياتها، كان اطلاعنا على الجرائد ومُلاحقة مَلاحِقِها الثقافية من عاداتنا اللّازمة، كنا نلتقي بشكل يومي تقريبا في كشك «باّ حُسين» في شارع محمد الخامس بمكناس، نترقب جديد المجلات والكتب والإصدارات ونتصفح الجرائد بأريحية. أحيانا، نلتقي في ذات الكشك للمرة الثانية في نفس اليوم مع ثالثِنا الصديق الفنان المسرحي بوسلهام الضعيف الذي يقول ضاحكا في وضع لقائنا المُكَرَّر: «طبعة ثانية مزيدة ومنقحة».
في حاضرة مكناس العامرة بأهلها الطيبين، اقتسمت مع السي محمد عديد اللقاءات والمهرجانات والمناقشات والاحتفالات والمواقف، كما اقتسمنا عديد الجلسات مع الأحباء من الكتاب والشعراء والمبدعين في فضاءات «حمرية» التي غمرتني بعشقها، وحكمتني في شِباكِها على امتداد أكثر من عقدين. خلال هذه المدة عاينت تجربة المبدع والباحث محمد أمنصور، التجربة العنيدة والمعطاءة التي تتبعتها كرفيق في الدرب الذي لم يكن سالكا باستمرار. فبالرغم من الانكسارات الناتجة عن الرحيل المتتالي لأقرب الأقرباء في السنوات الأخيرة، ظل صاحبنا قويا، صاحيا، واقفا كما عهدناه على الدوام.
لك مني صديقي الأديب محمد أمنصور محباتي الباقية الدائمة.
* تشكيلي وناقد فن

الكاتب : بنيونس عميروش* - بتاريخ : 12/01/2018

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *