العرب‮ ‬يكتفون بالفيروس وليس بما بعده‮

عبد الحميد جماهري

فاجأت الخبيرة الأمريكية‮ ‬آلانا شيخ‮، ‬العالم،‮ ‬بقسوة تصريحاتها، وهي‮ ‬تردّد‮ «‬فيروس كورونا هو مستقبل الإنسان‮»‬. ولعله أكبر تحول في‮ ‬بلاغة التوقع،‮ ‬كما هو تحول في‮ ‬استعارات التبشير‮. ‬فقد كنا‮، إلى وقت قريب،‮ ‬نسمع سيمون دو بوفوار تقول لنا‮: المرأة مستقبل الإنسان.‮ ‬أو الرفيق فيديل‮ كاسترو‮ ‬يصيح: إن‮ الاشتراكية هي‮ ‬مستقبل ‬البشرية‮. ‬أندريه‮ ‬مالرو، وزير الثقافة الفرنسي في‮ ‬عهد الجنرال ديغول،‮ ‬كان قد تنبأ بغير قليل من الصواب بأن‮ ‬القرن الواحد والعشرين سيكون دينيا أو لا‮ ‬يكون.‬
ومنذ سبعينيات القرن الماضي‮، نحن ننتظر أن تتحقق نبوءة‮/ ‬كتاب آلان بيريفت «عندما تستيقظ الصين سيهتز العالم‮»‬‮ ‬التي‮ ‬يقال إنه اقتبسها من نابليون الأول،‮ ‬حتى تحققت بالفعل‮‬،‮ ‬قبل كورونا ومعه وبعده‮.‬
ربطت الخبيرة بين مستقبل الوجود الإنساني‮ ‬وكورونا‮. ‬كيف‮ ‬نفهم ذلك‮؟ ‬لقد تم تفسير كلامها أنه‮ ‬تغيّر مرتقب‮ ‬في‮ ‬الجيواستراتيجيا،‮ ‬كما في‮ ‬علاقة الإنسان مع عالمه‮ ‬غدا،‮ ‬سواء‮ ‬في‮ ‬التجوال أو المناخ أو السلوك العام أو البيئة أو الهشاشات المتعددة‮‬،‮ ‬وكذا العلاقة مع الحضارة المستقبلية‮.‬ وهنا‮ ‬يتساءل العالم عمّا بعد الفيروس، وكيفية‮ ‬قلب الأولويات رأسا على عقب،‮ ‬وتغيير منظومة القرار في‮ ‬العالم‮.‬ هل‮ ‬يحق للدول في‮ ‬شرق المتوسط وغربه‮، ‬أو‬ بالأحرى هل يقيض لها‮، أن تطرح الأسئلة ذاتها،‮ ‬من قبيل‮ ‬التحول الجيواستراتيجي‮ ‬بعد‮ ‬الفيروس،‮ ‬ومنظومة القيم الدولية اقتصاديا وسياسيا في‮ ‬العالم بعده، وتركيبة القرار الداخلي‮،‮ ‬إلى‮ ‬غير ذلك من الأسئلة ذات الصلة بأولويات المجتمعات؟
قبل الإجابة،‮ ‬لا بد من أن نسرد ولو قليلا مما‮ ‬يشغل العالم اليوم، أول ما‮ ‬يشغل الناس،‮ ‬هو ما  أطلق عليه المستشار الخاص للدولة الفرنسية،‮ سفيرها السابق لدى الأمم المتحدة‮ ‬وفي‮ ‬موسكو وبروكسل‮ «‬جيو- استراتيجية الجائحة‮». ‬والتفكير‮ ‬يذهب بلا مواربة إلى التأثير‮ المتوقع لتدبير الوباء على السياسة الدولية،‮ ‬بمعناها المفرد، لا بصيغة سياسات دولية متفرقة‮، ‬باعتبار أن الفيروس هو دليل حي ‮-‬ ميت على مميزات العالم‮ ‬الراهن،‮ ‬ثم الذي‮ ‬سيولد‮.‬ ميزات منها ‬انتقال مركز التوازن إلى الصين وآسيا،‮ ‬ثم أفول الولايات المتحدة،‮ ‬مع بقاء جزء من ملامح قوتها وسعيها إلى الحفاظ عليها،‮ ‬ثم أخيرا ضعف الحكامة الشاملة، لا سيما في‮ ‬مجال الصحة‮.
الصين،‮ ‬في‮ ‬اللعبة الاستراتيجية المرافقة للفيروس،‮ ‬تخرج منتصرة، وقوة إنقاذ بالنسبة لدول عديدة، منها أوروبية،‮ ‬في‮ ‬وقت تبين، أمريكيا، أن الرئيس دونالد ترامب أظهر عجزا مهولا في‮ ‬التدبير، وفي‮ ‬القدرة على تجاوز المحنة،‮ ‬اللهم إلا من تصريحات سجالية ذات نفس مخابراتي‮‬،‮ ‬لم تستطع أن تقنع العالم بأن أمريكا قادرة على إنقاذه‮، ‬أو مهتمة أصلا بذلك‮.‬
على مستوى آخر،‮ ‬تكرس الصراع بين النماذج السياسية علميا،‮‬ صراع بين سلطوية ناجعة وشعبوية معبأة وليبرالية موضع تساؤل‮. بمعنى آخر‮، ‬يرى‮ ‬الدبلوماسي الفرنسي، ميشيل ديكلو‮‮، ‬أن هناك تلازما،‮ ‬بل تزاوجا، بين التنافس الدولي‮ ‬وصراع النماذج المطروحة للعرض والطلب  في‮ ‬الفضاء العالمي‮ ‬العام‮.
بالنسبة لدول‮ ‬الشرق والغرب المتوسطيين،‮ ‬يمكن‮،‮ ‬بلا مجهود كبير،‮ أن نخمّن أن الدول تعيش اختبار‮ ‬نموذجها أو نمط الحكم لديها من خلال تدبير الفيروس،‮ ‬من دون أن تكون لها خصائص النقاش العام الحالي‮، وهي‮ ‬إما رهينة التنافس الدولي، أو ‬غريبة سياسياً عن النقاش العقلاني‮ ‬للنماذج المطروحة‮. ‬بمعنى‮ ‬أن الدول‮ ‬إما تعيش في‮ ‬حروب ما قبل التحول في‮ ‬اللعبة،‮ ‬القائمة الآن،‮ أو أنها تختار،‮ ‬عكس الصين وروسيا،‮ ‬السلطوية‮ ‬غير المنتجة للمواقع الجيواستراتيجية،‮ ‬بل تابعة بالمطلق لتحولات تجرّها جراً إلى رقعةٍ لا تأثير لها فيها،‮ ‬أو أنها تحتمي‮ ‬باستبداد عقيم (إن كان هناك استبداد خصب‮!) ‬سيفوت عليها أيضاً ثمرات المرحلة المقبلة.
أرادت دول بكاملها أن تبحث عن ريادة أمريكية نموذجية للوجود الذاتي، تحتمي‮ ‬تحت مظلتها‮ ‬فلم تربح،‮ ‬مع ما برز من ضعف أمريكي‮ ‬في‮ التنافس مع الغريم الصيني‮ ‬أو الآسيوي،‮ ‬على الرغم من أنها أقرب إلى المركز الجديد في‮ ‬الاستراتيجية‮ ‬الدولية،‮ ‬باعتبار العيش في‮ القارة نفسها،‮ ‬آسيا‮. كما أن النماذج السلطوية العربية رثة للغاية،‮ ‬وتكاد تكون باهتة، اللهم إلا من لون الدم الذي‮ ‬تحيط به نفسها،‮ ‬بدون القدرة على إقناع مثيلاتها في‮ العالم، المبنية على نجاعة وطنية ما، ‮ ‬قادرة على مواجهة التحولات العصية للعبة الدولية‮.‬
‮‬لقد طرحت المحنة الدولية أولويات جديدة،‮ ‬على مستوى تنظيم المجتمع الدولي،‮ ‬والمحلي. وفي‮ ‬هذا‮ ‬يقول جاك أتالي، ‬الذي‮ ‬كان مستشارا للرئيس الفرنسي‮ ‬السابق فرانسوا ميتران «سنرى ميلاد شرعية جديدة للسلطة،‮ ‬لن تكون قائمة لا على المعتقد ولا على القوة ولا على العقل‮، ‬فالسلطة السياسية ستكون لمن‮ ‬يحسنون إظهار أكبر قدر من التضامن مع الآخرين».
وإذا تجولنا بنظرنا في‮ ‬الخريطة العربية سنرى أن دول المعتقد مهدّدة بالتراجع إن لم نقل الانتفاء، بعد أن اختبرته في‮ ‬الجائحة‮،‮ ‬واختبرت مدى قدرته على مواجهتها. ودول القوة ستمتحن انتحارا سياسيا مختلفا بدوره. أما العقل، فالدول التي‮ ‬عوضته بالمال وحده،‮ ‬فقد‮ ‬غاب منذ زمان في‮ تدبيرها السياسي‮، ‬اللهم إلا في‮ ‬ما ندر‮.

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 27/03/2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *