تراها ذكريات شخصية حقا عن الموت وقبله بقليل؟ 1/2

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

 

دفناه في اليوم الموالي..
كان يوم أربعاء..
لاشيء كان يدل على القيامة، ولكن النهر البشري الهادر الذي رافقه، كان يقول إن الخسارة مهولة، وان الإرث أكثر ثقلا على الصادقين..….
في الجنازة كان التاريخ قد وجد ثأره:يمكن أن تكون معارضا، بسيطا، نزيها وصادقا بأخلاق عالية في وطن يجد صعوبة في الخروج من إرثه السلطاني إلى فضاء الديموقراطية، مع ذلك تترك أخدودا من الألم في الملايين..
كما لو أن عبد الرحيم جمعنا، كلنا، ودفعة واحدة، ليقول لنا ما كان يقول لكل واحد منا ..
لأن عبد الرحيم، عندما كان يتحدث، في الاجتماعات الحزبية أو في التجمعات الضخمة أو في اللقاءات المحصورة، كان يُشعر كل واحد منا بأنه يتحدث إليه شخصيا.
حديث فرد لفرد،
وتلك موهبة لا يصلها إلا المؤمنون فعلا ..
أذكر أن النهر الهادر الذي رافقه إلى نبعه لأخير، قد توقف بالقرب من مكتبه الذي كان مارس فيه المحاماة، وارتفعت الشعارات… هادرة، كما لو أنها تريد منه أن يعود إلى مكتبه، ويعود إلى بذلته ليمارس ما ظل يجيده: الدفاع عن حق المختلفين في الوجود، قبل أن يصبح الاختلاف شبهة،
والتشابه أرقى أشكال الوجود السياسي! ..
أذكر : بالقرب مني كان عبد الله بلعباس ورفاق آخرون لا تميز في أصواتهم وشعاراتهم الحشرجة من النشيج من الحماس….
لم يسبق لي أن خاطبته، وجها لوجه..جيلنا كان قد اتخذ منذ البداية مكان الأبناء
والحفدة
والتلاميذ في أحسن الأحوال، امتنانا لكن أيضا بثقة أن الطريق قويم.
تنزيها، لم نكن نعرضه للمقارنة بغيره:
إمعانا في التقدير كنا نكتفي في أعماقنا، بحدس تقريبا، به.. مثالا لما يجب أن تكون عليه الشجاعة، والواقعية، النظافة والجرأة، التجرد والوفاء ..والارتفاع نحو التاريخ..لا البقاء في محصيات السجل السياسي !
أقص دوما ماحدث مرة، وكانت الفترة للتفاوضات الكبرى في البلاد..في منتصف الثمانينيات..
كنا من الشباب الذين يعتقدون بأن التفاوض حول الديموقراطية يجب أن يتم مع المناضلين الذين حافظوا على حراسة النار في الداخل..
بلا ضغينة ولا حقد، وبلا معرفة حتى بالأحابيل الممكنة في فكرة من هذا القبيل..
أجاب عبد الرحيم في اجتماع اللجنة المركزية: الأخ الذي طرح قضية الديموقراطية والتفاوض عليها، نقول له الطريق شائك وطويل، ومرحبا بالجميع في الطريق إليها..
هكذا، بضربة جواب وحيد ارتفع الوعي إلى أننا إما نجعل الاتحاد هو الحاضنة الكبيرة للديموقراطية، أو لا يكون، حتى ولو كان ذلك على قاعدة الاختلاف الكبير!
ربما وقتها أدركت بأن القلب لن يسعفني منذئذ على انتقاد اليسار و الاتحاديين مهما اختلفت معهم، أنه في زمن تشح فيه النزعة الديموقراطية لا يمكن أن تنتقد من معك في الخندق……
عندما قال «السياسة أخلاق « لم نكن نشعر بأننا معنيون بها، لسبب بسيط، فقد كنا نتماهى بيننا وبين الأخلاق
نحن الأخلاق:
كنا نرفعها في وجه الآخرين، ولأسباب معروفة، كنا نشعر بتميزنا الأخلاقي ونردد حواشي كثيرة عن سياق هذه العبارة، والتي تكاد تكون في ذهننا مرادفة لشذرة فقهية..
مثل “رب السجن أحب إلي”…
السياسة أخلاق، معناها أن أي وهم لوجودها -اي السياسة- بدون السلم القيمي هو وهم عابر ولا يمكن أن ينتج فكرة وطنية..
يمكن أن تعطي السياسة بلا أخلاق أناسا ناجحين،
في سلم المجتمع العالي
أو في مدخرات الريع
أو في مراكمة الرساميل ..
لكن لكي تكون السياسة ذات معنى لا بد من أن تدخلك التاريخ: التاريخ الشخصي لما يقاسمك المسار أو المعيش والتاريخ الجماعي بقوة الالتزام والانخراط السامي..
الفراغ الذي يتهدد السياسة كان بالفعل من انعدام البند الأخلاقي فيها.. ونحن، إذ نقيم في رقعة بلا قيم، نقيم في العراء مهما كانت فيه من مكتسبات مادية..
السياسة أخلاق، شعرنا من بعد أننا المعنيون بها..
وهذا هو التحول الأكبر، عندما بدأنا نمسح ضبابية المرآة وتطل علينا وجوهنا، في كل مراتب السياسة!
وعندما حانت الوفاة كان يستحضر التاريخ ولا شيء غير التاريخ، رفيقه الطويل وشاهده على البلاد والعباد، وكاتب سيرته المفضل، لهذا من لا يشعر بضرورة الإقامة في التاريخ عليه أن يتجنب التذكير به، فهو سيجد صعوبة في الحفاظ على هدوء الخلود..
وعندما جاء محمد اليازغي إلى ليبراسيون، في يوم الرحيل الكبير.. يومها كان الحديث عن استقبال ملكي عقب الوفاة، وسؤال الملك الراحل عن وصية عبد الرحيم، غير الوصية التي قالها في اللجنة المركزية الأخيرة، وصية التاريخ والوفاء والفؤاد الذي تطلع منه الوطن..
سمع الملك الراحل، ربما ما لم تصدقه أذناه:
لقد أوصى بالكشف عن مصير المجهولين، ولاسيما الذين لم يُعرف لهم أبدا أثر وعن إطلاق السجناء الذين كانوا يذكرون البلاد باستعصاءاتها الكثيرة..
هكذا أنصتنا للحكاية واحتفظنا بها في سجل السر الرباني، لأن عبد الرحيم أرادها كذلك …كما تخيلنا الأمر!
سيكون لي موعد معه بعد وفاته..
موعد لم أصدق أنه ممكن:
ترجمة مذكراته، ولاسيما دفتران منها ….

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 10/01/2018

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *