رأي مغربي في راهن جزائري…

عبد الحميد جماهري

اقتسم الجيل الجديد من الجزائريين، والذين يشكل أفرادهم غالبية الذين خرجوا للاحتجاج ضد عهدة خامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، اقتسم مرحلتين، هما من أشد المراحل تأثيرا في الجزائر الحديثة.
هناك العشرية السوداء، والتي طبعت البلاد بحرب أهلية ضروس، التهمت نيرانها عشرات الآلاف من الجزائريين، في أول تمرين علني لحرب مسلحة تدور حول الإسلام السياسي….
في هذه الحرب، لم تستطع الوصفة الغربية عموما، والأطلسية خصوصا، الداعية إلى تفاوض عسكري إسلامي من أجل الدخول في تغيير طبيعة الدولة الجزائرية أن تثبت جدواها، أو على الأقل قدرتها على الإقناع..كان الذي شاهدناه، هو انفجار النظام ككل، ودخول البلاد في دورة رهيبة من الدم بعد أن تم إلغاء انتخابات فوز »)الفيس( جبهة الإنقاذ الاسلامي في الدور الأول وحرمانها من وزن سياسي وانتخابي كبير أضعف النظام.
وانتهت الدورة بطبيعة الحال بوصول عبد العزيز بوتفليقة إلى سدة الحكم، قادما إليها من المنفى….
عودة بوتفليقة إلى سدة الحكم فتحت الطريق نحو ما سماه الوفاق الوطني، وهو تفاوض سياسي مع الإسلاميين من أجل عودة السلم المدني، ووقف العنف والدم والاختطافات..
من سوء الحظ، أن الشباب الذي رأى النور مع بداية الحرب الأهلية شاهد أن الوفاق الوطني وعودة الهدوء ارتبطا بوجه الرئيس بوتفليقة، وهو الاسم نفسه الذي سيظل يحكم البلاد لعشرين سنة، أي ثلث جيل كامل… …
المفارقة الشكسبيرية أرادت أن الوجه الذي ارتبط بالسلام هو الوجه الآن الذي يرتبط بالتوتر، عندما لم يحصل توافق داخل القوى المهيمنة في البلاد على اسم آخر….
غير أن حجم المظاهرات هو في الوقت نفسه عربون على سلامة هذا الجيل، الذي مر من الحرب الأهلية إلى الشلل الديموقراطي، والالتباس في تحديد المفاتيح المتحكمة في نظام الاستقرار الذي يراد به الجمود والعجز عن الحركة الذي يشبه السلطوية…إلخ .
التحرر الذي أبانت عنه قطاعات واسعة من المجتمع الجزائري، هو في هذه القدرة على الحركة السلمية، والانعتاق من أشباح الماضي القريب، التي تطارد كل الجزائريين، وككل الأشباح فهي تشل قدرتهم المؤسساتية..
الأساس هو أن الجزائر بعد هذه المظاهرات لن تكون هي نفسها، سواء أعيد بوتفليقة إلى الرئاسة، أو تم الوصول إلى مرشح آخر.
أولا، لن يكون بمقدور بوتفليقة أن يقود البلاد في وضع هادئ وبأجندة قادرة على الإقناع، بل سيكون حكما فوق وضع هزاز، متقلب، وربما سيغذي الاحتجاجات أكثر، وينقلها إلى مرتبة أبعد من عهدة خامسة..
قد تكون عودة بوتفليقة ذاتها إيذانا برفع سقف الاحتجاج إلى تغيير النظام كله..
في حالة عدم عودته سيكون على النظام، في شرط زمني محدد، أن يقدم مقترحا آخر، وهو ما عجز عنه إلى حد الساعة، أو التقدم بوجوه متعددة، مع احتمال وجود منافسة قوية تخترق الدولة الجزائرية عموديا وأفقيا، نظرا لطبيعة المكونات التي تشكل النظام(جبهة التحرير الوطني، الرئاسة، الجيش، المخابرات وتكتل نبلاء الدولة والمقاولون المرتبطون بالدولة، وقطاع المحروقات).
بالنسبة للمغربي الذي هو أنا، لا يمكن أن أدعي، كما لم يفعل آباؤنا منذ المقاومة، أنه يمكن متابعة ما يجري في الجزائر بحياد وموضوعية باردة.
هناك لا شك الحرص على احترام إرادة الجزائريات والجزائريين، لكن هناك التفاعل الذاتي والعام مع الأوضاع في البلد الشقيق.
أولا، لأن الجوار الطبيعي والجغرافي يجعل من التراشح مسألة واردة، مهما كانت الحدود مغلقة.. التأثير الذي يمكن أن تخلقه الأوضاع في الجزائر لا يمكنه أن يبقى بعيدا عن المغرب، ولا يمكن أن نتصور بأنه سيقف عند الحدود الشرقية للمغرب.
إضافة إلى أن جزءا من القيادات النظامية في الجزائر تعتبر بأن تعريف وجودها هو إعادة التشديد على جارها المغربي باعتباره العدو الضروري لتلاحم البلاد!
وهذه خيارات طالت وتجد باستمرار من يعيدها إلى تحريك التاريخ المعاصر للجزائر.
ومن المحقق أن المتابعة المغربية، تهم مصير شعب شقيق، مطلوب منه أن ينجح أربعة انتقالات كبرى، عاش المغرب بعضها بهذا القدر أو ذاك من الألم…..
* الانتقال الديموقراطي، ومع ما يتطلب ذلك من طي صفحة الماضي، والاتفاق الوطني على إعادة تشكيل الدولة على تعاقد جديد، والتسليم بالتناوب السياسي على السلطة، والإقرار بدور الأحزاب والمؤسسات في بناء الهوية الديموقراطية للبلاد…إلخ.
وهو مسار لا يمكن الاكتفاء به بالمكون الذي يقدم كاستقرار..
* الانتقال الطاقي والجزائر، مطالبة بالفوز فيه، لكي تنجح نموذجا اقتصاديا مبنيا على الإصلاح والخروج من اقتصاد الريع، وشراء الأمن المجتمعي بتوزيع الثروة.
واليوم مع تقلبات السوق وتراجع المداخيل بدون تنويع الموارد الاقتصادية، على الجزائر أن تتعامل مع مطالب الجزائريين بما يضمن إنضاج شروط عيش جديد.
* الانتقال العسكري، وهو انتقال صعب، ومفاده أن الجزائر، التي عرفت تاريخها الوطني كما لو أنه تاريخ جيشها الوطني، منذ الاستقلال وإلى حدود 1988، مع الانتفاضة الكبرى في أكتوبر من نفس السنة، أيام الرئيس الشاذلي بن جديد، عرفت التعددية الحزبية بعد أحداث رهيبة والعديد من القتلى، كما عرفت بروز المكون المدني في الدولة، وخروج نسبي للجيش من دائرة الحكم الأولي.
غير أن هذه الفترة سرعان ما ستغلق أقواسها مع أحداث 1991 والحرب الأهلية التي تلتها، والتي تميزت بالعودة القوية للجيش والتحكم المباشر في مسارات الحياة الوطنية….
الانتقال الرئاسي : منذ عودة بوتفليقة، كان هناك سعي من لدنه إلى إقامة نظام رئاسي قوي، يفرض إيقاعه على بنية الدولة، وقد تأتى له جزء من ذلك، وجعل الانتقال الرئاسي صعبا أيضا..
هذه الانتقلات لا يمكن أن تقفز عليهادول المنطقة القادرة على الرؤية … . والمغرب معني، والمغاربة مثلي يعتبرون بأن أي تفكك أو
وضع لا سياسي في البلاد لا قدر له، سيكون له ما بعده وانعكاساته على المنطقة كلها في شمال إفريقيا..
بطبيعة الحال، هناك الوضع داخل الجبهة الانفصالية التي تنازع المغرب وحدته الترابية، والجميع يعرف بأنها امتداد جيو- استراتيجي للنظام في الجزائر. ولا شيء يضمن أن تفكك قيادة الدولة لن ينعكس على ولاءات مكونات الجبهة وبالتالي على استراتيجيات كل جناح من أجنحة النظام..
فالدولة تحتضن الانفصاليين وتدعمهم وتتفاوض باسمهم حتى مع الهيئات الدولية، ولا شك أن الوضع الداخلي، وتطوراته سيكون له ما بعده على هذا المستوى….
لقد كان من سوء الاقتصاد أن أكبر دولتين نفطيتين في شمال إفريقيا،هما ليبيا والجزائر، لم تستطيعا أن تنتقلا سياسيا بالسلاسة نفسها التي كان من المفترض أن يضمنهافائض النفط والغاز، وإذا كانت الجماهيرية قد تفككت بفعل المعطيات المعروفة اليوم، فإن الجزائر التي تعتبر الشلل الديموقراطي بوليصة تأمين للعيش في سلام، تعيش حيرة المستقبل بغير قليل من التوتر، وأحيانا من الارتباك العام،… وعلى دول الجوار أن تدبر هذا الوضع، مع واجب التحفظ إزاء إرادة المواطنين في هذه الدول.
وللموضوع بقية…

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 06/03/2019

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *