نظرات في التصوف : مخايلات الدنيا والآخرة (8)

يعود الفضل في تقديم أجمل تأويل لإشكال العلاقة بين الحلم والتّضحية في الإسلام إلى المتصوّف الأندلسيّ ابن عربيّ (القرن الثّاني عشر). فقد أدرج هذا الإشكال في إطار نظريّته عن “حضرة الخيال”.
انطلق ابن عربيّ من جواب الابن : “يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ” ليُخضع مسألة التّضحية بأكملها إلى رهان تأويل الحلم، فهو يقول : “والولد عين أبيه. فما رأى [الوالد] يذبح سوى نفسه.”وفداه بذبح عظيم“فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان. وظهر بصورة ولد، بل بحكم ولد من هو عين الوالد.” وهكذا، فإنّ موضوع الحرمان الذي يخضع إليه الأب من حيث ماهيّته، وعن طريق الابن، هو الطّفل. ولا شكّ أنّ هذا التّأويل الذي قدّمه ابن عربيّ يندرج في إطار تقليد عريق في التّصوّف يقوم على اعتبار “التّضحية الكبرى” تضحية بالنّفس. والنّفس هي la psyché، وهي الجزء الحيوانيّ الفاني من الرّوح، وهي التي تظهر في صورة الحمل الوديع المقدّم قربانا، وعلى هذا النّحو يسلم الغنوصيّ نفسه إلى الفناء في الإلهيّ.
إلاّ أنّ طرافة ابن عربيّ تكمن في النّظريّة التي قدّمها في “الفصّ” المتعلّق بإسحاق. فهي من أرقى وألطف النّظريّات المؤوّلة للحلم المتعلّق بما يعتمل في الأب من شوق إلى قتل الطّفل، وللمرور من الفعل الخياليّ إلى الواقع :

 

يحدثنا الشيخ، فيما يروي الرواة عنه، قائلا بأسى: «عالجت العبادة، فما وجدت شيئا أشد علي من نزاع النفس إلي الوطن». وفي رواية أخرى، يقول: “ما قاسيت، فيما تركت شيئا أشد علي من مفارقة الأوطان”. ترى هل كانت حدود وعي الشيخ في هذه الأقوال تقف عند المعنى المباشر الحرفي للغربة المكانية الجغرافية، الغربة عن الوطن المادي؟ وربما كان الطين الذي يحمله معه، ويقتات به، هو قبضة من أرض الوطن الطيني، يحملها الغريب معه أينما حل تمنحه دفء الوطن وأنسه وأمنه، بل تنسرب في جوفه طعاما يشبعه، وكأنما يسد ثغرة الفراغ الباطني، ووحشة الداخل في عزلته المؤسية وغربته الشقية عن الوطن؟ وهل يمكننا القول إن هذا الوعي الذي لم يزل أسير الحصار الدنيوي كان يضمر نمطا من اللاوعي المؤلم بعمق الانفصام والانفصال الوجودي للذات المستوحشة المغتربة عن أصليْها الروحي الإلهي والجسدي الطبيعي؟
ترى هل استكن هذا اللاوعي المؤسي بالانفصال الشقي للذات عن أصولها بحنين ما لهذه الأصول، وافتنان بها؟ وفي حين ترقى الروح متطلعة لأصلها الإلهي عبر العديد من الممارسات الزهدية، يرقى الجسد، أو يتحرر من تركيبه الذي يحول بينه وبين نقائه الأصلي حين كان جزءاً من الطبيعة الأصلية المثالية، الأرض الأم، فيرتد لهذا الأصل بهذه الطريقة التي تتبدى للوهلة الأولي فجة وساذجة إلا أنها قد تكون عميقة المغزى والدلالة، ناهيك عن احتمالات المخايلة الأسطورية الميتافيزيقية اللافتة والورادة عبر ممارسة “أكل الطين”؟
يرى “باتاي” أن الأرض بولادتها للإنسان، وفقا للعديد من التصورات الأسطورية، كانت تمارس موتها، لأنها كانت تعطي الكينونة الحية لذلك الكائن الذي شكلت ولادته موتها الخاص. وبناءً على ذلك، كانت عودة الجسد المنفصم إلى أصله الأرضي الطيني، وقد تحلل إلى عناصره البسيطة الأصلية، بعد الموت، إنعاشا جديدا للأصل، وكأن الطبيعة أو الأرض الأم تستعيد حياتها الأصلية الأزلية بعودة أجساد أبنائها لحضنها الدافئ مجددا، وتوحدهم مع الروح الكلية، واندماجهم في الأصل الطبيعي المثالي الكوني. إن الموت هنا أو فناء الجزئي في الكلي لا يعني الموت المطلق بقدر ما يعني تجديد الحياة داخل أعماق الأرض، وعبر حيوية عناصرها التكوينية الخالدة.
ترى هل يمكننا القول إن هذا الحنين الجارف الذي يهجس به اللاوعي البشري الجمعي للأصل الأمومي أو الرحم الأرضي الدافئ، هو ما دفع الشيخ لأكل الطين؟ وهل نستطيع الحديث عن نمط من الممارسة التطهيرية الرمزية، حيث يقتات الفرع على أصله مرتدا لحالة النقاء الطاهرة الخالصة البدئية، ومستردا وحدته الأصولية من قبضة الثنائيات المتعارضة التي هي سر شقائه الوجودي، وغربته القاسية؟ ترى هل كان الشيخ يعي مدى عمق هذه الغربة، ويسعى إلى رأب الصدع الوجودي روحيا وماديا، والذي عبره اغتراب الفرع عن أصليه الإلهي والطبيعي، وألقى به في هذه الدنيا الهاجرة، وطن الغربة الحقة يرتحل داخلها من غربة لأخرى، استوطن فيها غربته القلقة؟ وهل كان ارتحال الشيخ الأدهمي من بلخ للعراق الشام، وكما سيخبرنا بعد قليل، وحيث لم يذق طعم الاستقرار إلا قليلا، تعبيرا عن هذه الغربة القلقة التي كلما أوغل فيها ازداد بعدا عن الأصل، وتعمق وعيه المؤسي بالانفصام والاقتلاع القسري من جذوره، وتوهج حنينه وشوقه للعودة متوسلا بكافة الوسائل التي كلما سعي بها وعبرها محموما نحو هدفه ابتعد، وقرب في آن، وكأنه لا يملك العيش إلا داخل هذا الفضاء القلق الذي يلوح ولا يصرح كسراب يراوغه على البعد، يذكي شهوته، ويشعل حنينه، ويقربه من مراده حتى يكاد يلامس التخوم، فإذا به يختفي في ذروة تجليه، تاركا هذا الشعور الجارف القاسي بالخواء، لكن هاتفا من العمق، لم يزل يومئ من طرف خفي بإمكانية الوصول، وتعدد السبل.
يقول الشيخ:
«الدنيا دار قلقة… اللهم إن كنت أعطيت أحدا من المحبين لك، ما سكنت به قلوبهم قبل لقائك، فأعطني ذلك، فقد أضر بي القلق… فرأيت الله في النوم، فوقفني بين يديه، وقال لي: يا إبراهيم، ما استحييت مني تسألني أن أعطيك ما تسكن به قلبك قبل لقائي، وهل يسكن قلب المشتاق إلى غير حبيبه أم هل يستريح المحب إلى غير من اشتاق إليه؟ فقلت: يا رب تهت في حبك، فلم أدر ما أقول».
يهجس وعي الشيخ الأدهمي بحيرة العشق، ووله المحب المدله، وبين الفراق، وخلة المشتاق، ومفارقة الشوق الذي يجلي وهج الافتقار المؤسي حيث تقبض الروح على جمرها المشتعل تشتاق دوما إلى مشتهى لا يُنال، يُلوح كالسراب كلما امتدت اليد إليه تقبض على الريح، فتزداد هوسا وسعيا في تيه المعشوق، علها تلمح نظرة من وراء الحجب والأستار!!

 

 


الكاتب : هالة أحمد فؤاد  

  

بتاريخ : 10/07/2020