التقنيات الجديدة أحدثت تحولا عميقا على مستوى تداول المعلومة : المجتمعات التي لا تتوفر على ثقافة تكنولوجية تكون مستهلكة بشكل سلبي لما توصل إليه العقل البشري من إبداعات في تكنولوجيا التواصل

أضحت مواقع التواصل فضاء لتصريف محتويات وخطابات يقال بشأنها الكثير على المستوى القانوني والأخلاقي، فإذا كان بعضها يتّسم بالجدية والمسؤولية ويحترم أصحابها حدود ومجال تدخّلهم، فإن البعض الآخر تجاوز كل الخطوط وضرب كل القيم، وعمل على نشر الرداءة وتقريب التفاهة، التي ساهم الفضول واللاوعي وغيره
من الممارسات في انتشارها كما تنتشر النار في الهشيم.
«المؤثرون» في مواقع التواصل الاجتماعي، الذين منهم من لم تعد لهم حياة خاصة، ولا يجدون أدنى حرج
في تقاسم ما لا يقبل عقل ولا منطق بتقاسمه، الذين لا يهتمون بخصوصيات الأفراد والأسر، ويجعلون من كل اللحظات مناسبة لتسويق فيديو والرفع من عدد المشاهدات ومنسوب «اللايكات»، الذين منهم من أصبحت صفحاته تستقطب الراغبين في تسويق منتوج أو «توجّه»، خلقوا بهذا النوع من الممارسات نقاشا واسعا، خاصة وأن عددا منهم أشرك كل أفراد الأسرة في هذه المشاهدات، بل وسخّر حتى الأطفال لتصريف خطابات ومواقف معينة.
ممارسات ترخي بظلالها وآثارها ووقعها المختلف على المجتمع، نقلت بعضها «الاتحاد الاشتراكي» إلى فؤاد بلمير، الباحث في علم الاجتماع، من أجل تسليط الضوء على هذه الظاهرة وتقديم أجوبة عن وافعها وتداعياتها
على المجتمعات.

 

 

 فسحت وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة الباب أمام مجموعة من الأشخاص الذين يطلقون على أنفسهم لقب «المؤثرين»، والذين يحظون بعدد من المتابعات، لكي يصبحوا مصدرا لـ «الخبر»، ولنقل تفاصيل واقعة من الوقائع، أو لتسويق وترويج حصيلة أو منتوج، وربما حتى «فكرة»»، وتستعين عدد من الجهات بخدماتهم، فما هو تعليقكم على هذا الأمر؟

علينا أن نعلم أن المجتمع البشري انتقل إلى العيش داخل مجتمع المعرفة والإعلام الذي تعتبر وسائط التواصل، التي تسمى بالتقنيات الجديدة، والتي يعرفها الناس منذ مدة، قلبه النابض، بالنظر إلى أنها أحدثت تحولا عميقا على مستوى تداول المعلومة، التي كانت قبل ظهور هذه الوسائط حكرا على فئة معينة وتوجد في مستودع النخبة دونا عن غيرها، وهو ما سمح لها بأن تصبح عامة ومتوفرة بشكل كبير جدا ومتاحة للعموم.
لقد كنا نتحدث سابقا عن ندرة المعلومة، لكننا أصبحنا اليوم أمام وفرة لها، بالمقابل يُطرح أمام هذه الوفرة مشكل كبير جدا، متعلق بالاختيار، لأن هذا الأمر يتعلق بمصدر المعلومة ومصداقيته ومهنيته، إن كان خبرا صحفيا يصدر عن مؤسسة مسؤولة وملتزمة، مؤطرة بالقانون وبأخلاقيات المهنة أم لا، حتى لا يكون المتلقي أمام حالة من التخبط، بشأن صدقية الخبر من عدمه، خاصة وأن الذين يبحرون في مواقع ومنصات التواصل الاجتماعي يعيشون نوعا من التخبط، لأن المعلومة متوفرة بشكل كبير لكن حقيقتها وطبيعتها ومصداقيتها تبقى عبارة عن أسئلة حارقة تفتح أبوابا كثيرة للنقاش.

 هل التشجيع على هذا التغير يمكن أن يخدم المجتمع وأن يسهم في تطوره أو العكس؟

نحن نعيش في ظل مجتمعات تتحكم فيها الرأسمالية المتوحشة التي لا تبحث إلا عن الربح وتدفع وتشجع لتحقيق ذلك على الاستهلاك، الذي تتعدد أشكاله وصيغه، ومن بينها هذا النوع الذي نتحدث عنه، إذ أصبح عدد من الأشخاص يتجهون نحو الكسب المادي من خلال عدد المشاهدات واللايكات، وما قد يحققونه من مكتسبات أخرى نتيجة لهذا الإقبال على ما يعرضونه ويقدمونه، ونفس الأمر بالنسبة لعدد من المؤسسات والشركات، التي تسعى لتسويق بضاعتها الإعلامية والاقتصادية والتجارية، ومن أجل بلوغ هذا الهدف، فهي تبحث لها عن هذه الفئة التي يسمي البعض المنتسبين إليها بـ «المؤثرين»، لأن الهاجس الأساسي، ليس هو تقديم معلومة مفيدة، صحيحة، اعتُمد في صياغتها وإعدادها وتقديمها ما تنص عليه أخلاقيات المهنة، وإنما الربح واستغلال جميع الإمكانيات المتاحة والمتوفرة للوصول إليه.
هاجس الربح هذا، ساهم بكل أسف في مناسبات عديدة في ترويج معلومات تكون مرارا غير صحيحة لا تصدر عن جهات تتوفر فيها شروط المصداقية وصحة المعلومة، والأمثلة كثيرة في هذا الباب، ولعلّ جائحة كورونا ، على سبيل المثال لا الحصر، كانت إحدى هذه المناسبات حين تم البحث عن بعض هؤلاء المؤثرين للحديث في مجال لا يتناسب ومستواهم العلمي والفكري، ومع ذلك تم اللجوء إلى بعضهم فقط لأن لديهم عددا كبيرا من المتابعين على منصات التواصل الاجتماعي.

كيف تفسّرون اتساع رقعة المتتبعين لهذه المشاهدات، وما هو السبيل للخروج من هذه الأزمة؟

إن هذا التغير كان سلبيا في حالات كثيرة، فقد فسح المجال للبعض لاستغلال الفيسبوك والأنستغرام واليوتيوب، لعرض وتقديم محتويات يمكن أن يقال بشأنها الكثير، من انتهاك للخصوصيات، وتطاول على حياة الأفراد والجماعات، وعدم احترام للقوانين، وتمرير مجموعة من الخطابات، من أجل تحقيق الربح المادي أو الشهرة أو هما معا، ورفع من مستوى الكسل لتلقي كمّ كبير من المعلومات وتداولها وتقاسمها دون التأكد من صحتها، فمجرد التوفر على هاتف «ذكي» يفسح المجال لعرض وتلقي وتبادل كل المحتويات، بما فيها المائعة والمنافية للقيم والأخلاق، التي يهوى البعض النبش في تفاصيلها، بعيدا عن أي مجهود فكري، وبلغة متداولة عند العموم، عامية وبسيطة، ليجد الإنسان نفسه في نهاية المطاف مجرد كائن استهلاكي جمّد عقله وعمل على إلغائه في كثير من المواقف.
إن وجود هذه النماذج لا يلغي أن هناك محتويات جادة وهادفة، فأنا لا أقوم بالتعميم، لأن هناك مواقع وجرائد إلكترونية تتوفر فيها شروط المصداقية والمهنية، لكن ما يغلب على هذه السوق الافتراضية بكل أسف، هو النوع الذي تحدثت عليه الذي تطغى عليه الميوعة.
إن المجتمعات التي لا تتوفر على ثقافة تكنولوجية تكون مستهلكة بشكل سلبي لما توصل إليه العقل البشري من إبداعات في تكنولوجيا التواصل، وغياب عقل نقدي ومواكبة ومتابعة من طرف مؤسسات التنشئة الاجتماعية، تجعلنا أمام هذا النوع من الميوعة والاستهلاك غير العقلاني لكل ما ينشر في مواقع التواصل الاجتماعي، وهنا يختلط الواقع بالخيال، والكذب والافتراء بالصدق، وتصبح الغالبية تعيش في حيرة من أمرها وتعمل على استهلا وترويج أمور لا تمت بصلة مع المجال الإعلامي.


الكاتب : حاوره: وحيد مبارك

  

بتاريخ : 21/07/2020

أخبار مرتبطة

  لماذا يطالب إسرائيليون بإلقاء نتنياهو في مزبلة التاريخ؟   لا تزال حكومة الاحتلال تبحث عن خطط لليوم التالي من الحرب

لا يسعنا في هذا المقام، سوى الوقوف، إجلالا، لكل من مر في الصحافة الاتحادية ومن ما زال يحمل المشعل ،

ستبقى أيام 10، 11 و12 من شهر ماي 2024 ، أياما مشهودة في تاريخ حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وقطاع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *