كتب لها وقع : «نقد العقل العربي» لمحمد عابد الجابري 4/3

يعير عابد الجابري أهمية قصوى لدور اللغة في البناء النسقي للعقل، صحيح أن بعض الدراسات الحديثة التي يصرح الجابري باستيحائه لنتائجها هي الأخرى تربط برباط متين الفكر باللغة، إلا أن اللغة العربية بالنسبة إلى العقل العربي كانت لها خصوصية؛ وتتجلى خصوصيتها في أنها محل تعظيم وتقديس من العربي، إلى حد أن اللغة العربية نفسها تحمل بين طياتها ما يؤكد هذه الخصوصية، ففي معاجم اللغة العربية؛ الذي لا ينطق بالعربية يُطلق عليه «أعجمي»، ولا تخفى تلك الصلة الجذرية بين «أعجمي» و»عجماء»، فهذه الأخيرة تعني في اللغة الحيوانات المتسمة بالعجمة؛ أي عدم امتلاك ملكة النطق، من هذا المنظور يمكن القول إن العربي «إنسان فصيح» كما يقول عابد الجابري، وهذا من غير شكّ يدعونا لاستحضار التعريف اليوناني الشهير للإنسان بأنه «حيوان عاقل»، فكأن الجابري يوحي بوجود تقابل بين عربي بياني ويوناني عقلاني.

 

نخلص من هذا، أن الموضوع الذي شكل مادة عمل العقل على تنظيمها هي الفقه، وقد تجلى هذا التنظير العقلي للكيفية التي يجب أن يقارب بها العقل الفقه في “أصول الفقه”، فهذا الأخير كان بمثابة تقنين عقلي لنمط اشتغال العقل وهو يحتك مع النص، وهذا هو موضوع الفقه. أما أصول الفقه، فهي مجموعة القواعد ونسق منظم من التوجيهات ذات الطابع العقلي التي تجب مراعاتها من أجل استخلاص الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية على نحو سليم، أو بعبارة الأصولي نفسه “المنهاج الذي يرسم للفقيه ليتقيد به في استنباطه حتى لا يخرج عن الجادة، فهو يرتب الأدلة، ويبين من يخاطب بأحكام الشرع وينطبق عليه ما تقتضيه هذه الأدلة (…) ويبين القواعد اللغوية التي ترشد الفقيه إلى استخراج الأحكام من النصوص، ويبين الموازين التي تضبط القياس، وتفيد طرق استخراج العلل الجامعة بين الأصل المقيس عليه والفرع المقيس”، وبعبارة مختصرة أصول الفقه هي “القواعد والبحوث التي يتوصل بها إلى استفادة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية”.
إن أول ما نستشفه من هذه التعاريف هو الطابع الإبستمولوجي لعلم أصول الفقه، إنه ينظر في مبادئ علم الفقه، ويصبو لبناء دعامة وقاعدة متينة للفقيه يستوحيها كنموذج ذهني أثناء اشتغاله، ومما له دلالة خاصة أن يقرن الرازي بين علم المنطق وعلم أصول الفقه، يقول: “واعلم أن نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة أرسطاطليس إلى علم المنطق (…) وذلك لأن الناس كانوا قبل أرسطاطاليس يستدلون ويعترضون بمجرد طبائعهم السليمة، لكن لم يكن عندهم قانون ملخص في كيفية ترتيب الحدود والبراهين؛ فلا جرم كانت كلماتهم مشوشة مضطربة (…) فلما رأى أرسطاطليس ذلك، اعتزل عن الناس مدة مديدة، واستخرج علم المنطق ووضع للخلق بسببه قانونا كليا يرجع إليه في معرفة تركيب الحدود والبراهين (…) فكذلك ههنا الناس كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلمون في مسائل الفقه ويعترضون ويستدلون. ولكن ما كان لهم قانون كلي يرجع إليه في معرفة الدلائل الشرعية وفي كيفية معارضاتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه”. فإذا كان علم المنطق بالتعريف هو ما يعصم العقل من الخطأ، ألا يحق لنا تبعا لقولة الرازي أن أصول الفقه هي ما يعصم العقل الإسلامي من الخطأ.
إننا نستطيع أن نتبين أكثر جوابا لهذا السؤال إذا استحضرنا التمييز اللالاندي بين العقل المكوِّن والعقل المكوَّن؛ كما أشرنا إلى ذلك في مستهل هذا الفصل، وقد نلمس أن القواعد التي يستخدمها العقل الإسلامي في استدلالاته هي نفسها تلك التي ضمّن الإمام الشافعي كتابه الأصولي الأول “الرسالة”.
هذا بالضبط ما عناه الجابري، وسر إيراده لمبحث الأصول في كتابه الذي يناقش الذهنيات، والواقع أننا نجد باحثين معاصرين آخرين ينطلقون في دراستهم للعقل الإسلامي المعاصر من رسالة الشافعي، باعتباره الطريق المختصر لمعرفة “البراديغم” أو نموذجه الذهني في الاشتغال؛ وأحدهم المفكر والمؤرخ المغاربي محمد أركون. إن أركون اقترح ثلاث استراتيجيات من أجل القبض على العقل الإسلامي الكلاسيكي، إما الارتكاز على دلالات المفهوم في النص القرآني ثم تتبع تطوراته داخل الفكر الإسلامي، وإما الوقوف على دلالة توظيف المفهوم عند الفرق الإسلامية ومن ثم اختيار أكثرها تعبيرا عن الخصوصية الإسلامية، وإما اختيار أكثرها تعبيرا عن الخصوصية الإسلامية، وإما اختيار كتاب معياري صودق على معياريته ومرجعيته بإجماع الفرق الإسلامية، وهذه الأخيرة هي التي سيعتمدها أركون. في أي خندق إذاً زج الشافعي بأصوله العقل الإسلامي حسب أركون.
إننا لا نستطيع أن نجيب عن هذا السؤال إذا لم نحلل كتاب الرسالة للإمام الشافعي، وليكن محمد أركون وسيطنا في فهم جملة الإشكالات التي طرحها. يرى المفكر الجزائري أن الرسالة تضعنا أمام عنوانين كبيرين عما “لغة، حقيقة، قانون” و”حقيقة، تاريح”؛ فحوى الإشكالية الأولى أن معرفة حقيقة القانون، أو لنقل إصدار فتوى أو النطق باسم الشارع يمر عبر وسيط لغوي، فلابد للمفتي أن يكون عارفا باللغة العربية ولسانها، يقول الإمام الشافعي: “ومن جماع علم كتاب الله العلم بأن جميع كتاب الله، إنما نزل بلسان العرب”، والإمام الشافعي في هذه المقولة كان يتوجه بالكلام إلى من زعموا أن في القرآن كلمات غير عربية، يقول بصيغة جدلية: “فقال منهم قائل: إن في القرآن عربيا وأعجميا”، وهو يجيب عن هذا الاعتراض ببيان مداخل الغلط إن صح التعبير، أو لنقل أن الشافعي يرى بأن هؤلاء “العجم” وقعوا في مغالطة أصلها الاعتقاد في كون جهل العرب ببعض ألفاظ اللغة دليل على أن ذلك المجهول من غير لسانه، والجواب الذي يقدمه الإمام الشافعي لهذا الاعتراض هو التنصيص على سعة اللسان العربي؛ فهو “أوسع الألسنة مذهبا وأكثرها ألفاظا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان عربي غير نبي، ولكن لا يذهب منه شيء على عامتها”، يم يعقد الشافعي مقارنة بين العلم باللسان العربي والعلم بالسنة لدى الفقيه، فكما أن الإحاطة بكل سنة الرسول محمد (ص) متعذرة على الفقيه، فإن “العلم [بلسان العرب] كالعلم بالسنة عند أهل الفقه، لا نعلم رجلا جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيئا”. ومما يجب التنبيه عليه هنا، أن بعض الفقرات في رسالة الشافعي تنطلق من خلفيات إيديولوجية، فهي توحي أنه كان يود تأسيس مركزية العربي في السلطة التشريعية، خاصة عندما يتحدث عن ما سماه تبعية، يقول الشافعي بوضوح ودائما بصيغة جدلية: “فإن قال قائل فقد نجد من العجم من ينطق بالشيء من لسان العرب؟” يجيب الشافعي: “فذلك يحتمل ما وصفته من تعلمه منهم، فإن لم يكن ممن تعلمه منهم فلا يوجد ينطق إلا بالقليل منه، ومن نطق بقليل منه فهو تبع للعرب فيه”.


الكاتب : عادل الطاهري

  

بتاريخ : 25/08/2020