نظرية الإخراج السينمائي بين التقنية والابداع

” يلزم المخرج أن يفكر مرتين قبل أن يشرع في صناعة الفيلم، الأولى التفكير في تقنية الإخراج و الثاني التفكير في الابداع، و المخرج الجيد هو من يدمجهما معا، أما المخرج المبدع فهو الذي يستخدم التقنية كوسيلة لتحقيق رؤيته الابداعية.”

ما الذي يميز المخرج بصفته مبدعا ؟ هذا السؤال يقتضي الحصول على معلومات تجريبية عن المخرج السينمائي. وعندما يطرح العقل البشري هذا السؤال-فإنه يلتمس معرفة نفسية على وجه التحديد. فهل للمخرج المبدع نفس التكوين الأساسي الذي تجده عند غيره من المخرجين، بحيث يكون الفارق الوحيد هو أن لديه مهارة تقنية في مجال صناعة فيلم معين ؟ لو صح هذا لأصبحت جميع الأفلام المغربية قد ترشحت على الٌأقل لجائزة أوسكار. أم أن هناك شيئا مميزا- شيئا متعلقا بالقدرات المعرفية مثلا, أو بقدراته الابتكارية و الابداعية – يميزه عن باقي صناع الأفلام ؟
في معجم المصطلحات السينمائية ذكرت الاستاذة الجامعية– ماري تيريز جورنو أن المخرج هو الذي يحول الأشياء والأفكار المكتوبة إلى أشياء و أفكار تشاهد بالعين. إن عملية الاخراج السينمائي في عمومه قائمة على عهدين الرأيين. لماذا ؟ لأن صناعة الفيلم برمته ناتج عن عملية تفكير صرفة، تتجلى في تحويل أفكار مكتوبة إلى أفكار تشاهد بالعين، مما يجعل الصورة أو الشكل النهائي للفيلم يتلخص في تلك الفكرة. وهذه عملية تحتاج إلى المعرفة و الابتكار و الابداع

و ما علاقة المعرفة بالابتكار والابداع ؟

يرتبط مفهوم الابتكار بالإبداع، ويقصد بالابتكار هنا الأساليب الجديدة الغير المقلدة أو المنسوخة، التي تستخدم في عمل و تطوير الأفكار، لأن الابتكار هو عملية عقلية تعبر عن التغيرات الجوهرية في التفكير لعملية الانتاج سواء في الفن أو في غير الفن، و بالنسية للسينما يقصد بالتغيير الجوهري في التفكير طريقة التحويل من المكتوب إلى المرئي، مما يجعل الشكل النهائي للفيلم يتلخص في تلك الفكرة . وهذه الفكرة نصوغ معناها عن طريق المتتالية الحاضنة للمشاهد التي تكونها اللقطات. .
يؤكد العلماء على أن مصطلحات المعرفة و الابداع و الابتكار مرتبطون ببعضهم، لماذا ؟ لأن العملية الابداعية تحتاج بدون شك إلى قدر كاف ومعقول من المعرفة في الموضوع الذي يقع عليه التفكير، فالفنان والفيلسوف والعالم ، قبل أن يتمكن من تحويل المشاعر والاحاسيس إلى عمل إبداعي، يعيش من قبل قدرا من التجارب و الخبرات المتمثلة في المعرفة وبدونها لن يكون هناك ما يمكن الإبداع فيه.

و لكن ما الإبداع ؟ وكيف يتم إدراكه ؟

على الرغم من أن السؤالين؟ ما هو الإبداع ؟ و كيف يتم إدراكه في العمل الفني ؟ مختلفين كل الاختلاف، فإن لكل منهما صلة بالآخر، لأن في محاولتنا للإجابة عن السؤال الأول: ما الابداع؟ ينبغي أن يعمل فيها السؤال الثاني بصفة جزئية حتى يتحقق الادراك- حسب الاجزاء التركيبية التي يتكون منها مفهوم الابداع, و لكي يتضح لنا ذلك، ينبغي علينا أن نفهم معنى لفظ” الابداع”.
من الواجب أن نعترف أولا أن لفظ الابداع يحمل معاني مزدوجة و تفاسير عدة، تختلف حسب الدارسين من علماء وفلاسفة و فكرين و منظرين و نقاد- المهتمين بدراسة الابداع، فتفسير مفهوم الابداع في علم النفس، يختلف تماما عن تفسير علم الاجتماع، وهذا الاخير يختلف عن الانثروبولوجيا الاجتماعية التي تدرس الانسان في بيئته الاجتماعية، و بما أن للإبداع مفاهيم لا يمكن حصرها سنركز على المفهوم الشامل.
ذكر الدكتور عبد المنعم الحفني في المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة أن الابداع هو إحداث الأشياء على غير مثال مسبق، و في اصطلاح الفلاسفة هو إخراج الشيء من العدم الى الوجود بغير مادة، إذ يقول ابن سينا أن الابداع هو أن يكون من الشيء وجود لغيره متعلق به فقط دون متوسط من مادة أو الة أو زمان. والابداع أعلى رتبة من التكوين و الإحداث، لأن التكوين هو أن يكون من الشيء وجود مادي، و الإحداث هو أن يكون من الشيء وجود زماني، و هما مرتبتان من الابداع حيث أن الابداع أقرب اليها من العلة الاولى. “ص 16

تحليل المفهوم الشامل للإبداع

يقصد بإحداث شيء على غير مثال مسبق أن نقوم بعمل لا مثيل له، لم نره ولم نسمع به من قبل، لا هو نسخة ولا هو اقتباس ولا هو إعادة صياغة- وهذا يلقب بالجديد وليس الجديد ما وجد من قبل، وإنما الجديد من وجد للتو بكل مكوناته الاصلية، أما إخراج الشيء من العدم إلى الوجود بغير مادة، فمعناه الفكرة فكرتك و الابتكار ابتكارك و الخلق خلقك ما فعله أحد من قبل و لن يفعله أحد من بعد، أما تعريف ابن سينا فمعناه أن تكون نفسك مصدر الشيء.
أما أن تصنع شيئا بوجود مصدر اخر أو مادة تتكئ عليها فهذا يسمى التكوين، أي تكوين الاشياء من خلال عدة مواد أولية، وإحداثها معناه إخراجها للوجود وهذا مرتبط بزمن الإحداث نفسه، فإذا قمنا بتجميع هذه الصفات- الابداع و التكوين و الاحداث، فسنخلص إلى صفة المبدع لا محالة، وهذه الصفة منزهة عن كل الصفات، وهي صفة الخالق المبدع، لأنه مصدر كل شيء. وقد عبر عن هذا الفيلسوف الفرنسي “أمالريك” بقوله : ” الله مبدأ كل شيء”
“جوهر الابداع هو الابتكار والخلق و التجديد في الانتاج الادبي و العلمي والفني”
ماسلو

نظريتي الثانية: نظرية المخرج السينمائي المبدع
( منهج الملاحظة )
الافتراض الأول ايريك فروم
( كتاب نظريات الابداع ص 26-27)

تكمن نظرية الابداع لعالم النفس الفرنسي ايريك فروم في معنيين: الأول- أن الابداع عبارة عن خلق جديد، شيء محسوس يمكن أن يراه أو يسمعه الاخرون كأن يكون تصويرا أو نحتا أو موسيقى أو رواية أو شعر، وبذلك يتميز الابداع في هذا النوع بأنه مشروط بمجموعة من العوامل التي تؤدي إلى تحققه، وهي الموهبة و الدراسة و الممارسة و الثاني- الإبداع كاتجاه و معناه أن الاتجاه الابداعي ضروري لأي ابداع فعلي.

الافتراض الثاني ماسلو ( كتاب نظريات الابداع ص 26-27)

يركز ماسلو أيضا في نظرية الابداع على معنيين أساسيين هما – الإبداع الأولي الذي يعتمد العمليات الأولية دون اعتماد العمليات الثانوية والابداع الثانوي الذي يعتمد على العمليات الثانوية و يظم معظم الانتاج الابداعي ويصوغ ماسلو من الابداع الأولي و الابداع الثانوي بنوع من الابداع يسمى بالإبداع المتكامل، وهو الذي ينتج عنه تلك العمليات الابداعية في الفن و الفلسفة و العلم التي تساهم في بناء المجتمع

صياغة نظرية المخرج السينمائي المبدع من الافتراض الأول والثاني
( منهج التجربة )

ترتكز صياغتي لنظرية المخرج السينمائي المبدع على تحليل الاجزاء التي تتركب منها نظرية كل من ايريك فروم و ماسلو– لماذا؟ لأن عملية الخلق الجديدة عند ايريك فروم قد شملت كل من التصوير والنحت و الموسيقى و الشعر والرواية، والترتيب الزمني لهذه الفنون، هو من أدى إلى ظهور السينما، حيث اجتمعت فيها كل الفنون، فخلقت فنا مغايرا و جديدا اسمه الفيلم.
إن هذا الفيلم هو الاتجاه الابداعي الذي تم اعتماده، وبما أن للفيلم صانع يقوم بإخراجه- فما هي الصفات التي يجب أن تتوفر فيه حثى ينال لقب المبدع ؟ هل هي المعرفة والابتكار التي ذكرناها سابقا أم الموهبة و الدراسة و الممارسة التي ذكرها ايريك فروم ؟
أشرنا في مقدمة هذا المقال أن العلماء أكدوا أن المعرفة والابتكار والإبداع، مرتبطون ببعضهم البعض، واستنتجنا أن العملية الابداعية تحتاج بدون شك إلى قدر كاف و معقول من المعرفة في الموضوع الذي يقع عليه التفكير -هذا التفكير يجب أن يكون مبتكرا بمعنى غير منسوخ أو مقلد، ولم يكن له مصدر حيث أن الفكرة هي المادة الاولى وهي العدسة التي تخلق الرؤية.
تلك الرؤية هي التي تشكل صورة الفيلم التي يصنعها المخرج، وهي التي يشاهدها الجمهور في قاعة السينما – التي تتصف في جوهرها بالابتكار، والخلق، والاحداث، والتكوين، والمعرفة، التي تنتج الابداع- و هذا الابداع يكون أولي، حيث أنه هو من يميز الفيلم عن باقي الأفلام في تفرده، وأصالته، وانسجامه، و اختلافه ،وهذا ما يجعل الفيلم يحتل مكانته في تاريخ السينما العالمية مدى الحياة.

صياغة المفهوم من نظرية ماسلو

المخرج السينمائي المبدع هو من يقوم بصناعة فيلم يكون هو نفسه المادة الأولية التي تنتج الابداع الأولي، خلق شيء جديد يجذب الجمهور. وما يثير الجاذبية يسمى الجمال، وهو الابداع الأولي، وما يثير الحيرة، والدهشة، في نفوس المشاهدين، ويحقق ادراكا واعيا، في المشهد السينمائي، ويسمى هذا الاستطيقي، وهذا هوالابداع الثانوي.
إذن فوجود الجمال والاستطيقي في الفيلم هو ما ينتج الابداع المتكامل، و بالتالي يصبح الفيلم منسجما في الاسلوب بين أجزائه، مما يشكل تحفة فنية، تقدم لصانعها صفة المبدع، ولن يتحقق الفن والاستطيقي والجمال إذ لم يكن المخرج مبدعا، ولن يكون مبدعا بدون ان يخلق شيئا جديدا و لن يخلق شيئا جديدا بدون أفكارا اصلية، وخلن تكون الافكار أصلية بدون عقل بشري يفكر بطريقة كونية مستقلة.

* الجمال : يشير إلى جاذبية الاشياء أو قيمتها
الفن: يشير إلى إنتاج موضوعات أو خلقها عن طريق نوع من الجهد البشر
الاستطيقي : يدل على الرؤية والادراك- إدراك قيمة الشيء من أجل ما فيه من اهمية
(من بحث التخرج في شعبة الفلسفة مسلك التواصل: الفن و. الجماليات)


الكاتب : عبد الرحيم الشافعي

  

بتاريخ : 26/09/2020