الوحدة والغُربة في رواية «خميل المضاجع» للميلودي شغموم

صاحب هذه الرواية المخملية والمشحونة في آن، الميلودي شغموم، كاتب وفيّ لهاجس الكتابة مفتون بغوايتها ومباهجها، له فتوحات سابقة ومتلاحقة في سُوحها، فقد ابتدأ الحراك الأدبي في بداية السبعينيات 1972، بمجموعته القصصية “أشياء تتحرك”، التي كانت بالفعل إيذانا وفاتحة لتحرك أدبي ستتنامى وتيرته صُعدا مع الأيام. حيث أصدر ما يناهز عشرين رواية ومجموعتين قصصيتين، وثلاث دراسات فكرية تندرج في سياق اهتماماته الفلسفية – الأكاديمية، إضافة إلى ترجمته لكتاب “قيمة العلم ” لبوانكاري .
عطاء إبداعي وفكري جزيل ومنتظم، يشفّ عن تجذّر هاجس الكتابة والإبداع لدى الكاتب وإخلاصه وخلوصه له.
ویشكل الإبداع السردي، رواية وقصة، بؤرة هذا العطاء ومجاله الحيوي الفسيح. فهذا باحث آخر في الفلسفة يأتي الأدب السردي من بابه الواسع، بعد أن وجد فيه ضالته ومبتغاه، وملاذه وهواه.
وهو أيضا عطاء جزيل ووارف يرتّب، لا محالة، مسؤولية أدبية مضاعفة على صاحبه، بخصوص أفق انتظار القارئ للجديد الذي يخطّه ويوافي به قراءه. فهذا كاتب له قدم وسابقة في عالم الكتابة، وليس جديدا أو طارقا لبابها. ولهذا الأمر دلالته على مستوى التقييم الإبداعي – النقدي، وجسّ نبض الكتابة ودرجة تطورها.
وأستعير بدءا كلمة “خميل” من عنوان الرواية، لتوصيف الخميل السردي – الحكائي المتشابك في هذه الرواية.
وأظن أن وقفة معجمية قصيرة هنا كفيلة بأن تقرّبنا من المراد .
نقرأ في (المعجم الوسيط ):
(خمل المنزل خمولا، زالت آثاره.
وخمل الرجل، خفي فلم يُعرف ولم يذكر.
أخملت الأرض، کثرت خمائلها.
الخَملة والخملة والخميل، القطيفة (..) أو هدب القطيفة ونحوها مما ينسج وتفضل له فضول .
والخميل أيضا، الشجر المجتمع الكثير الملتفّ).
أستعمل الخميل هنا مجازيا، بدلالته المعجمية الأخيرة التي تعني الشجر المجتمع الكثير الملتف، أغصانا وأفنانا.
وأقصد به تحديدا، هذا التشابك والتقاطع في السرد الروائي، كما تتشابك وتتقاطع الأغصان والأَفنان.
وهو ما يشكّل، في رأيي، الطابع المميز للبرنامج السردي في “خميل المضاجع”.
هذا البرنامج الذي لا يلتزم خطة سردية دياکرونية، متنامية ومتآخية تتجه أماما كحركة السهم، بل يفتح لنفسه مسالك ومسارب سردية متداخلة ومتقاطعة، يلتفّ خلالها السرد على نفسه ويستدعي، فيما يشبه التداعي الحر، حکایات ومشاهد وأصواتا ولغات مختلفة ومؤتلفة في آن، بما يجعل السرد بالفعل، شبيها بخميل من الأشجار والأغصان المتشابكة المتعالقة، خميل ملتبس ومثير للالتباس، كما هو مثير للدهشة والفضول، ليس عبوره واختراقه بالأمر اليسير.
ذاك ما أعنيه بخميل السرد هنا، کصفة مميزة لـ “خميل المضاجع”، دون أن أغفل بالطبع، تلك الدلالة المخملية الناعمة لهذا الخميل السردي، على مستوى الكتابة وسيولة السرد.
فكيف ترى، يتجلّی خميل السرد في “خميل المضاجع” ؟!
هناك جملة دالة ومشحونة وردت على لسان علي الرماني، الشخصية المركزية في الرواية، خلال حواره الهاتفي التعيس مع مُعدّة البرنامج الإذاعي (لا تخف من مشاكلك، فهي غذاؤك! ) :
(مشكلتي أن لا أحد في البيت يحبّني !) .
هذه الجملة / اللاّزمة التي تكررت أكثر من مرة، وبصيغ متقاربة ومتشابهة تمثل مفتاح السرد وعقدته في “خميل المضاجع”، كما أن البرنامج الإذاعي الآنف يمثل منطلقا ومثارا للبرنامج السردي في الرواية، بعامة .
لقد كانت هذه الجملة / اللاّزمة ، الجريحة والصريحة، بمثابة القطرة التي أفاضت إناء علي الرماني وإناء الرواية، وكلمة السر السردية التي أطلقت الشجون والدفائن الحكائية والباطنية من مراقدها، ليس فقط شجون ودفائن علي الرماني كشخصية مركزية في الرواية ساردة ومسرودة، بل شجون ودفائن الشخوص الأخرى المحايثة له والدائرة معه في فلك الوحدانية والغُربة الروحية والعاطفية کالمذيعة الجميلة ليلی، صاحبة برنامج
(لا تخف من مشاكلك، فهي غذاؤك !)، الغارقة في بحران مشاكلها ووحدتها، والتقني العجوز الذي تضامن مع علي الرماني، ولم يشأ أن يقطع مكالمته لأنه (استمع لأول مرة، في هذا البرنامج، إلى مشكل يخصّه بشكل مباشر .. ). وكأصدقائه وخلانه الأصفياء بعدئذ، محمود، والفكاك، والمهدي، ومصطفى الذين يقاسمونه الوحدانية ذاتها، يصطلون داخليا بجمرتها ويحتسون مرارتها، كل في سياق حكايته أو معاناته الخاصة. وبذلك تنفتح الرواية، كما أسلفنا، على مسالك ومسارب حكائية متداخلة ومتفاعلة، مختلفة ومؤتلفة، ضمن مجراها الحكائي الرئيس.
فهي خميل سردي ملتفّ على بعضه، كلمة السر فيه وعقدته اللاّحمة هي هذه الوحدانية الباهظة التي تنوء بها الروح وتنسدل خميلا باردا على المضاجع، يحول دون التواصل الحميمي المنشود .
وعلي الرماني الذي يتماهی – ويتأقْنم سردا واسما مع علال مختار، شخص متقاعد له زوجة وسكن وأبناء ضمنوا مستقبلهم ومصيرهم، ومشكلته مع ذلك هي افتقاد الحب ودفء العلاقة (مشكلتي أن لا أحد، في البيت، يحبّني ! ). وليس له من مهرب من هذا الصقيع العاطفي (ليس له سوى هذا الخط يُدفئه ! ) ، وسوى هذه الكأس يبثها بلواه وشكواه ، (منذ أكثر من أربعين سنة وعلي الرماني يتردد على النادي،إضافة إلى سنتين قضاهما في تعلّم الشرب، قضاهما صحبة مدربين أو متدربين مختلفين (۰۰۰) ولقد تردد خلال هاتين السنتين، على كل حانات المدينة وملاهيها الليلية مقلدا، متمرنا، مغامرا، هاربا، باحثا، مستأسدا ومستحمرا مستكلبا .). والهروب إلى الكأس هنا تلمّسا لبعض دفء وسلوی مفتقدين، هو هروب من وحدانية لأخرى. والهارب هنا كالمستجير من الرمضاء بالنار.
يقول علي الرماني، كعادته في الرواية، مستبطنا هذه الحالة أو معلقا عليها ( والسكّير وحید، دائما وحيد. يعاني من وحدانية مهولة ولو كان وسط أعز الندماء، خاصة النساء منهم. رجل يهرب من الضجيج الذي بداخله أو حوله، لياتي إلى وحدانية مؤنسة).
ولعل رواية “خميل المضاجع”، بهذا الصدد، أجرأ الروايات المغربية على اقتحام هذا العالم الخلفي، عالم الكأس الباخوسي، جرأتها على اقتحام المضاجع الداخلية ونشر خميلها وغسيلها. وهي من هذه الوجهة، رواية انتهاكية خالعة للعِذار وهاتكة للأسرار.
ترى، كيف يعيش على الرماني أو علال مختار، وحدانيته، وكيف يبرّرها ويفسرها، من وجهة نظره ؟ !
لندعه يتكلم عن نفسه قليلا :
(ولاحظ أنه، بل أحس فقط، أنه بقدر ما ازداد الأولاد عددا وعمرا، ازدادت الأم عبودية لهم. بالغت في خدمتهم وأكثروا من طلب هذه الخدمة، بينما ازداد هو ابتعادا عنهم، ازداد عزلة. لا جدوى : لأي شيء يصلح ..رجل لا أحد يكلمه، يردّ على كلامه، على سكوته الصاخب . لا أحد يطلب منه شيئا، يقدم إليه شيئا، يحاسبه على شئ. لا يبالي به أحد، ليس هناك من يجد الوقت للاهتمام به، شخص مجرد ظل، خيال، لم يعد حقيقيا، لم يعد موجودا بالنسبة لغيره وبالتالي بالنسبة لنفسه).
ولا نعدم في مواطن كثيرة من الرواية “تأمّلا “، موضوعيا لهذه الوحدانية، واقتحاما نظريا لها.
نقول تأملا واقتحاما نظريا، لأن الكتابة في مثل هذه المواطن تنحو منحی تقريريا مباشرا أكثر منه حكائيا. وذاك فخّ نصبته الرواية لنفسها، من غير موجب.
نقرأ في الصفحة 65:
(ولهذه الوحدانية أسباب موضوعية، ولا شك اجتماعية واقتصادية، وربما سياسية أيضا. كما أن لها أسبابا ذاتية متنوعة، من زاوية علوم العصر. لكن لها أسبابا، بكل تأكيد عتيقة، مختلفة، منسية، دفينة، سرية، أسبابا من الماضي البعيد جدا وأسبابا من المستقبل القريب جدا، لا نفكر فيها إلا نادرا، أو بما لا يكفي، أو كما يجب، لأن اللحظة الراهنة، المركز، يعمينا، حجاب ستارة … !)
ونقرأ في الصفحة 81:
– (القيم اختلطت ولم يأخذ تراتبها بعد شكلا واضحا، نحن نؤدي ثمن هذا الخلط. أكباش الفداء).
هكذا يقوم العقل الواعي، في الرواية، بتعقيل هذه الوحدانية، ووعيها وفلسفتها، أو بالأحرى ، هكذا يقوم العقل الواعي، في الرواية باعتقال العقل الباطني فيها، أي عقلها العفوي اللاّواعي، وهو مضختها الحرارية ومجالها الحيوي، مما يؤدي إلى إرباك قواعد اللعبة السردية وكبح المتخيّل وتشتيت البرنامج السردي.
وبتقريرية هذا العقل الواعي نقول، إن الميلودي شغموم الباحث، يأبى إلا أن يشوّش على الميلودي شغموم المبدع، خلوته ولعبته .
صحيح أن بطل هذه الرواية، يذكّرنا بذلك البطل الإشكالي الذي يبحث عن قيم مفتقدة في عالم خال من القيم ومناوئ لها، حسب لوكاش، لكن بحث هذا البطل في الرواية عن القيم المفتقدة، يتم أحيانا كثيرة بصوت عال ومباشر، يُفقد الإشكالية، كما يفقد الرواية، شعريتها وحرارتها.
وقد بُنيت الرواية سرديا، كما أسلفنا، على خميل متشابك من المشاهد والمحافل السردية المختلفة حكائيا والمؤتلفة دلاليا. ويبلغ تعداد هذه المشاهد / المحافل سبعة وثلاثين، حسب االمونتاج السردي، المرقّم الذي انتهجته الرواية.
غير أن بعض هذه المشاهد، يبدو وكأنه تنويع على وتر واحد، يُعيد فيه المشهد اللاحق إنتاج المشهد السابق، بصيغة مزيدة ومنقحة، ولعل هذا التكرار- المشهدي توكيد لتلك الوحدانية الوجودية المهيمنة على الرواية، والدائرة بشخوصها في ما يشبه الحلقة المفرغة . كما أن بعض هذه المشاهد، يشكّل “عوارض”، أو “أقواسا”، سردية مفتوحة ضمن السياق العام للرواية، من غير أن تكون هنالك حاجة أو ضرورة فنية لها. ومن ذلك، المشهدان الخرافيان، (8/ ملخص غاية وأبنائها. 9 / ملخص وهمية)، إذ في الإمكان الاستغناء عن هذين المشهدین، دون أن يعتري الرواية خلل.
ولعل أكثر النقاط سخونة وحساسية وخلافية، في هذه الرواية المشاكسة، هي اللغة الدارجة المغربية القحّة التي طفحت بها صفحاتها، سردا وحوارا ومونولوجا والدارجة في هذه الرواية ليست مجرد لعبة بوليفونية سردية، حسب باختين، ولكنها اختيار مبني على سبق النيّة والإصرار.
يقول الميلودي شغموم في أحد اللقاءات الثقافية “… الحاجة إلى توظيف اللغة الدارجة نظرا لبلاغتها في استغراق الحميمية، وترجمة عدد من المواقف والحالات والأحاسيس
التي لا تغطيها اللغة الفصحى، زيادة على أساليب السخرية وصيغ التهكم الخصبة والدالة التي تميزها “.
لا جدال في أن للدارجة المغربية، بلاغتها وشعريتها، وقد كان شغموم قدیرا على استعمالها واستثمارها، خبيرا بأسرارها وطاقاتها، ولكن الجدال يثور، حين نفاضل بينها وبين الفصحى في (استغراق الحميمية، وترجمة عدد من المواقف والحالات والأحاسيس التي لا تغطيها اللغة الفصحى)، وهو ما انتهجه الكاتب فعلا في (خميل المضاجع) التي درّج، قسما كبيرا منها.
لا موجب هنا، أصلا وفصلا، للمفاضلة بين الدارجة والفصحى، لأن الدارجة، ببساطة، سليلة الفصحى وصداها الحاكي. والفصحى كما يتبدّى من اسمها أفصح وأصرح. ولا موجب، في رأيي تبعا، لاستعمال الدارجة في الرواية، بكل هذه الأريحية المغربية، حتى لا أقول “النزعة” المغربية لأن الذين يتكلمون هذه الدارجة في الرواية، هم في أغلبهم مثقفون، ولأن الذين يتلقّون هذه الدارجة في الرواية، ليسوا بالضرورة مغاربة فحسب، ولكنهم عرب، من كل حدب وصوب، خصوصا بعد سيولة التواصل والتفاعل بين المشرق والمغرب، هذا، إلا إذا كان الميلودي شغموم، يريدها جهوية، أو إقليمية إبداعية، أو يريده تأسيسا لرواية زجلية، فتلك مسألة أخرى !
لا يملك القارئ، وهو يختتم قراءة هذه الرواية، إلا أن يطرح سؤالا فضوليا ملحاحا :
ما هو الحد الفاصل بين “السيري” و”الروائي”، في هذه الرواية ؟
لقد ذرعت بنا هذه الرواية شوارع وأزقة الرباط طولا وعرضا، وسمّت أماكن بأسمائها، ووصفت لنا شخوصا نكاد نتقرّاها بالعين، وأحداثا نكاد نستعيد أصداءها، وكل هذا يعزّز الإحالة المرجعية بصدد هذه الرواية.
ومع ذلك كله، تبقى هذه الرواية، هي روايتنا جميعا، تلك التي لم نشأ کتابتها، فكتبها الميلودي شغموم، بعفوية قاسية.
مع ذلك كله، تبقى هذه الرواية جزءا منا ومن لحظتنا التاريخية المأزومة، شئنا أم أبينا.
إحالات :
1 ) المعجم الوسيط، 1،2 : طبعة مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، ص. 257
2 ) خميل المضاجع، ص. 14.
3 ) خميل المضاجع، ص. 21
4 ) خميل المضاجع، م .27.
5 ) خميل المضاجع، ص 112
6 ) خميل المضاجع، ص. 114.
7 ) خميل المضاجع، ص .70.
8 ) جريدة العلم، الملحق الثقافي ع. 736


الكاتب : نجيب العوفي

  

بتاريخ : 06/11/2020