محمد المليحي تشرّب ثقافات العالم وظل مسكونا بمدينته و«موجها»

حين يرحل الكبار يتركون أثراً على الزمن الذي عاشوا فيه فيطبعونه بطابعهم. هكذا كان الرحيل المفاجئ للفنان المغربي محمد المليحي (1936- 2020) عن عمر يناهز الأربعة وثمانين عاماً، وقد قضى مؤخراً في مستشفى Ambroise paré في باريس متأثراً بمضاعفات جائحة كورونا، التي ختمت حياته كواحد من أعمدة الحداثة التشكيلية المغربية الذين ساهموا في إثراء المنجز الحداثي العربي.
هو من جيل المؤسسين الأوائل، الذين سعوا الى التحرر من التأثير الكولونيالي وحملوا لواء مقاومة الاستعمار عبر التمسّك بالموروث التراثي. موصوف بأنه مجدّد الفن المغربي التقليدي، فقد غاص في الموروث باعتباره وسيلة للمعاصرة في الفنون العالمية. انطلق من مدرسة الفنون الجميلة في تطوان (1953- 1955) ليواصل دراسته للفن متنقلاً بين عواصم أوروبية عدة (أشبيليه، مدريد، روما وباريس)، قبل أن يمضي سنتين من الدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية، ليعود بعدها أستاذاً في مدرسة الفنون الجميلة في الدار البيضاء في المغرب.
وكان من نتيجة هذا الاحتكاك الثقافي العميق والمتعدد أن أغنى تجربة المليحي كمثقف وفنان ومنظّر للفن، في الحقبة التأسيسية للحداثة التي تشاركها مع رفقاء دربه فريد بلكاهية ومحمد شبعة، هذه الرفقة التي أسفرت في نهاية الستينات عن مشروع ساهم في فتح آفاق الفن لأول مرة نحو عامة الناس في نقاش مفتوح تحت مسمى «الفن الواضح» من خلال معرض جماعي أقيم في ساحة جامع الفناء في مراكش عام 1969، ليستكمل المليحي هذا المسار التصاعدي عام 1978 مع صديقه الوزير الأسبق للثقافة محمد بن عيسى في تنظيم موسم أصيلة الثقافي الذي فتح لأول مرة جدران المدينة البحرية كي تكتسي بإلابداعات الفنية الآتية من أنحاء العالم العربي.
أدرك المليحي أن العمق الحداثي لا يتم من غير فعل التثقيف، لذا أصدر مجلة «انتغرال» Intégral ومن بعدها صمم أغلفة المجلة اليسارية «أنفاس» Souffles التي كان عضواً فيها وكان يرأس تحريرها شخصية قيادية أخرى هو عبد اللطيف اللعبي برفقة مصطفى نيسابوري ومحمد خير الدين، كما أسس المليحي عام 1974 دار نشر حملت اسم «شوف»، فضلاً عن عمله مديراً عاماً في وزارة الثقافة قبل أن يكون مستشاراً ثقافياً لوزارة الشؤون الخارجية.
كان المليحي بلا شك شخصية حداثية شمولية نموذجية قل نظيرها في العالم العربي. فهو رائد التجريد الهندسي بمنحاه اللوني – البصري، عمل طوال حياته على أكثر من مسند تصويري وخامة وامتلك العديد من التقنيات، في محاكاة عالم الصورة والفضاء والشكل: من التصوير الفوتوغرافي الى العمل الغرافيكي – الطباعي فضلاً عن الرسم والنحت، ذلك ما أعطى فنه حياة جديدة، هو الذي اختار دوماً أن يجاوز الحدود ويكسر الأطر التقليدية للفن، وهو من القلائل الذين ربطوا بين الأصالة ومفاهيم المعاصرة. اعتُبر في السنوات الأخيرة من حياته من بين أكثر الشخصيات تأثيراً في مشهدية المعاصرة بعد سلسلة من المعارض الاستعادية ذات الطابع الدولي التي أقيمت له، وكانت إحدى لوحاته قد بيعت منذ بضعة أشهر في مزاد سوذبيز (لندن) المتخصص في الفن الحديث والمعاصر في أفريقيا والشرق الأوسط بمبلغ يفوق النصف مليون دولار.

هندسيات العرب والوهم البصري

عرفتُ الراحل في مناسبات فنية عربية عدة، كانت أولاها في بينالي الشارقة، حين حلّ ضيف شرفٍ على فعاليات البينالي في ربيع عام 2007، برفقة زوجته الثانية الفنانة اللبنانية فاتن صفي الدين. وكانت مرحلة التقلّبات التي يمكن وصفها عربياً بأنها على مفترق ما بعد الحداثوي ومجهولات المعاصرة.
في ذلك الوقت، كان الانفتاح العربي – الخليجي المفرط على فنون التجهيزات الفراغية والمفاهيمية الفنية الغربية، يعني حتمية الانعتاق من مفاعيل التراث وخلخلة شعارات الهوية والانتماء الحداثوية، وبالمقابل الارتماء بلا شروط في اكتشاف الطاقات الكامنة في الميديا الجديدة والفضاءات المتعددة الأبعاد. ربما بالإمكان وصف تلك المرحلة بأنها نوع من الارتماء في الفراغ القريب من حالة الطيران المزيف في الصورة التذكارية – المخادعة للفنان إيف كلين، كبديل من فعل التجذر المكاني المتأصل بالماضي. هل هي ساعة الفراق مع كل الماضي التشكيلي؟
لم تكن كذلك بنظر محمد المليحي، ذلك الرائد المخضرم المثقف المتعدد الضفاف والمتأنق بشخصه وفنه على السواء والمتفاعل مع مستجدات عصره، الذي كان ينظر الى المرحلة على أنها تمهيدية من الانبهار الظاهري ليست مستقرة ثقافياً وعمقياً على الأقل. وكان المليحي محقاً في ذلك وهو الموصوف بالحكمة والتّبصر وبعد النظر، وهو الذي عرف جيداً كيف تتقلب الأمواج وتتكسر على السطح.
وكثيراً ما قيل عنه إنه مبتكر للأشكال الأرابسكية الملغّزة ولحركات الأمواج المنبثقة من بحر أصيلة (مسقط رأسه)، حيث ترعرعت ذائقته الفنية على تأملات سارحة في اكتشاف نظام الطبيعة وحركات الأمواج وعذوبة تقوسات إيقاعاتها وآثارها على الرمال. فقد شكلت أصيلة ذاكرة المصالحة بين الفن والتراث. وبحسب قول المفكر عبد الكبير الخطيبي بأن «فنون الإسلام هي أفق الفن المعاصر في المغرب، كاشفاً أن المليحي أنشأ نوعاً من الفن يربط بين الماضي والحاضر».
الرسم على اللوح الخشبي بدلاً من القماش وبالألوان الصناعية (ذات اللمعية) التي تستخدم في مصانع السيارات (Laque cellulosique sur bois) تكاد تشكل الميزة التقنية لأعمال المليحي، في تصميم مسطحات هندسية قائمة على التقاطعات والانزياحات الشكلانية والخطوطية، في لغة تستمد إغراءاتها من هندسيات العرب، وخصوصاً من الموروث الكامن في الفنون التطبيقية لفسيفساء «الزليج» المغربي (الذي سبق وخلب عقل ماتيس) وهو يمنح تنويعات لامتناهية في ابتكار علاقات جديدة من تقاطع الدائرة بالمربع.
كل ذلك يأتي مندمجاً مع شكل الموجة التي تتمثل كأول حب وأول ذكرى، ليس لأنها مرتبطة بماضي الطفولة والمراهقة على شواطئ أصيلة فحسب، بل لأنها تحولت بين يديه الى «موتيف» بصريّ متحرك ولعوب أضحى شيئاً فشيئاً ضرورة ذات مؤدى جمالي هندسي، من شأنه أن يكسر بلطافته رتابة المستقيمات والزوايا الحادة الطاغية على التأليف، عبر ذلك الخط المتموج الذي يتكرر صداه ليغدو أفقاً سائباً مثل سطح الماء، وقد يذكّر بمنحنى جسد أنثى أو يتحول إلى شعلة مستعرة بلهيبها. كما أن موجة المليحي بالعمق لا تفترق عن أهمية الخط الحلزوني الذي وجده كاندنسكي باعثاً على الدينامية والحركة. هكذا ظلت الموجة هي السرّ وهي قطعة من الروح التي رفعها المليحي الى أعلى مراتب الارتقاء حين نصّبها بشكل عمودي كعمل نحتيّ مجسم في الفراغ (منذ أول نصب له أقيم لمناسبة الألعاب الأولمبية في مكسيكو عام 1968)، ثم أخذت هذه الموجة تتكرر عمودياً حتى أضحت شعلة النور التي لا تنطفئ.

«موتيف» الموجة

ظهرت الموجة للمرة الأولى في إنتاج المليحي عام 1963 حين اخترقت آفاق لوحاته الملونة بألوانها المونوكرومية، لتدخل في ما بعد في بنائية هندسية آتية من فن الزرابي (البسط) الشعبية، حين علّق في معرضه عام 1965 بساطاً بحياكة يدوية من صنع الفلاحين بين لوحاته، ليشير الى توجهاته الفنية المتعلقة بالتقاليد القديمة. فقد اعتبر نفسه أنه أحد ورثة الصنّاع التقليديين الذين عاشوا مجهولين.
استطاع المليحي بذكائه وعمق ثقافته التي جمعت ما بين مفاهيم التجريد الأوروبي (اسبانيا وايطاليا وباريس) والتجريد اللوني بمفهومه البصري في مدرسة نيويورك، زعزعة سطوحه التجريدية بدلالات هندسية براقة متحركة ذات ألوان اصطلاحية، حتى أضحت عالماً من الأشكال والرموز والمفاهيم الجمالية بمظهرها الشكليّ واللوني والتكوينيّ، التي وصلت في فن المليحي الى ما بعد فازاريللي والفن البصري والى مكان أكثر تعقيداً من تجارب Post Painterly Abstraction وفناني الحافة الصلبة Hard Edge وأكثر زخماً وحميمة من تقشف جماعة المينمال آرت، وخصوصاً زخرفيات فرانك ستيللا Frank Stella في الولايات المتحدة الأميركية.
هذه الكشوفات الجمالية لدى المليحي المتأتية بذورها الأولى من موروثات الزخارف التي تزين الألبسة الشعبية في وعيه المبكر وإلهامات النسيج التقليدي وفسيفساء الزليج المغربي، دفعته في سعي حثيث الى تمثيل واقعة زخرفية قبل كل شيء تهتز في منتهى عينيه وواقعة انفعالية وحسية تجذبه غالباً نحو تموجات الحنين، لذا كان دوماً منكباً على ألوانه و»زيوحه» ينمّقها على سطح لوحاته حيث تطفو الحركة الزائغة في اللاانتظام، ما يجعل قراءة لوحاته مفتوحة على متاهات التأويل البصري وأوهامه.

عن «النهار العربي»


الكاتب : مهى سلطان

  

بتاريخ : 13/11/2020