واقعة الكركرات: الدرس البليغ

 

كان بإمكان المغرب أن يحسم الموقف على حدود الكركرات ويتخلص من عناصر البوليساريو، بحركة عسكرية ميدانية في غاية البساطة والأريحية، كما فعل ليلة 12/13 نوفمبر الجاري، لكن لماذا انتظر كل هذا الوقت؟ الذي عاشت فيه المنطقة العازلة مع موريتانيا من الفتنة والصخب الإعلامي الجزائري والانفصالي في تصوير يومي لمشهد دراماتيكي، حظي بتغطية إعلامية دولية واسعة.
لكن العديد من المراقبين للوضع بهذه المنطقة الحدودية، تفاجأوا لدواعي صبر المغرب وتحمله لاستفزازات عناصر البوليساريو على مدى أسابيع ثلاثة، وعدم إقدامه على الأخذ بزمام المبادرة، كما حصل في وقائع سابقة.
فمنذ الحادي والعشرين من أكتوبر الماضي وحتى إنهاء العرض، ماذا كان بإمكان البوليساريو أن تقدم كنموذج لمشروعها الانفصالي أمام دول المنطقة وأوروبا بل العالم بأسره، عن هذا الموقع الجغرافي الاستراتيجي البالغ الأهمية؟ الذي يحرص المنتظم الدولي على ضمان أمنه واستقراره.
بالفعل، تابع العالم وعلى جميع القنوات الفضائية الدولية، ومواكبة الأمم المتحدة عن قرب، من خلال بعثة «المينورسو» اقتحام عناصر البوليساريو للمنطقة العازلة بين الحدود المغربية الموريتانية والعبث فيها، عبر الإقدام على عمليات النهب والسرقة والتخريب وقطع الطريق والحصار وشل حركة شاحنات نقل السلع والبضائع والاعتداء على حرية تنقل المسافرين بالحافلات والسيارات وفرض الإتاوات وتخريب المواد الغذائية وتشتيتها على قارعة الطريق، فضلا عن تخريب الطريق المعبد لتأمين حركة المرور الانسيابية للمركبات والسيارات، في محاولة لفرض قانون الغاب.
غير أن المغرب بفضل ما راكمه من خبرات في التعاطي مع ملف الصحراء، أمهل الجزائر والبوليساريو لتقديم عرضهما بالمنطقة العازلة، وانتظر ثلاثة أسابيع ليكشف للعالم بأسره حقيقة ما ينتظر المنطقة حال استوطنت الجزائر بمشروعها في هذه البقعة، كما ترك المجال للمنتظم الدولي للتدخل ووضع حد لهذه الاستفزازات والخروقات المتكررة. وبذلك يكون المغرب قد ضرب عصفورين بحجر واحد، فمن جهة وضع الجزائر والبوليساريو وجها لوجه أمام المجتمع الدولي، عندما تم رفض الامتثال للنداءات الأممية الداعية لاحترام قرار وقف إطلاق النار والانسحاب الفوري والكلي من المنطقة، ومن جهة ثانية منح الأسرة الدولية فرصة الاطلاع عن كثب على شكل «مشروع الدولة» التي تبتغي الجزائر خلقه بالمنطقة.

فكان النموذج حيا، حيث شاهد المجتمع الدولي «مشروع دولة» قطاع الطرق، مشروع إرهاب المدنيين العزل، مشروع الفتنة والفوضى والتخريب، مشروع مرتزقة قطع الأرزاق ، مشروع للتهريب والاتجار في المحظور، مشروع قرصنة وسرقات وقطع الطرق، «مشروع دولة» تحت تدبير وهيمنة حكام الجزائر لتنفيذ أجندتهم، المتطلعة إلى التحكم والتسلط في المنطقة، التي يراد لها من جانبهم أن تظل بؤرة نزاع وتوتر مفتوح.
لنخلص إلى التساؤل العريض، هل هذه هي «الدولة» الموعودة التي تبشر بها الجزائر المنطقة؟ إنها دعوة للتأمل من قبل كل الأشقاء بموريتانيا وتونس وليبيا ومالي والسنغال والأصدقاء الأسبان ومن حولهم إلى الاستعداد للقنبلة الموقوتة التي تسعى الجزائر إلى زرعها في رحم هذه المنطقة الآمنة.
عادت «الكركرات» إذن، بجرة قلم إلى سابق عهدها، في الحركة الانسيابية للتجارة ونقل السلع والبضائع والمسافرين بين الجانبين، بعد العملية العسكرية الناجحة دون سلاح، لتجري بعدها خطة تمشيط المنطقة العازلة، حققت أثناءها القوات المسلحة الملكية خطوة استراتيجية في غاية الأهمية بتشييد حزام أمني لحماية المعبر الحدودي مع موريتانيا، لتحرم بذلك عناصر البوليساريو من اقتحامها مرة أخرى، ولسحب هذه الورقة من أيدي النظام الجزائري.
فمن حين لآخر، دأبت الجزائر على اللعب بورقة الكركرات، لغاية في نفس يعقوب، فكان مبتغاها في الآونة الأخيرة الدفع بمرتزقتها إلى إشعال فتيل الأزمة من جديد، للتغطية والتشويش على الانتصار الدبلوماسي الساحق للمغرب، بعد فتح 15 دولة إفريقية بالإضافة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة قنصلياتها بكل من العيون والداخلة، واستعداد دول عربية وإفريقية لاتخاذ خطوات مماثلة، بما يعزز السيادة المغربية على الأقاليم الجنوبية. يواكبها التخوف والارتباك الذي أصاب حكام الجزائر بعد بروز النهج المغربي الرامي إلى تحويل الأقاليم الصحراوية إلى قطب اقتصادي كبير لجذب الاستثمارات العربية والأجنبية تتحول معها إلى وجهة عالمية للسياحة ومجال للمال والأعمال والنشاط الاقتصادي البحري وغيره.
وجاء الخطاب الملكي في السابع من نوفمبر الجاري بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء، ليؤكد جلالة الملك محمد السادس هذا التوجه بالإعلان عن « الالتزام الراسخ بمغربية الصحراء… وجعلها قاطرة للتنمية على المستوى الإقليمي» مشيرا إلى أنه « إضافة إلى ميناء طنجة المتوسط، الذي يحتل مركز الصدارة بين موانئ إفريقيا، سيساهم ميناء الداخلة الأطلسي في تعزيز هذا التوجه» فضلا عن «مشاريع للاستثمار في المجالات البحرية، بغاية النهوض باقتصاد المنطقة».
هذا المنحى المغربي الذي يقلب الموازين في مسار قضية الوحدة الترابية للمغرب، شكل صدمة قوية للنظام الجزائري وبعثر كل أوراقه مخافة أن يواجه مستقبلا جديدا واعدا بالمنطقة، بعقلية الماضي وتركة الراحلين، بومدين وبوتفليقة، فلم يجد من رد، سوى التلويح في البداية بالاحتجاج على التمثيل الدبلوماسي الدولي بالصحراء، ولما فشل، اختار إثارة زوبعة الكركرات فسجل فشلا ذريعا ثانيا، أعقبها إعلان البوليساريو عن عدم التزامهم بالقرار الأممي لوقف إطلاق النار، ليواجهوا الأمم المتحدة/ المينورسو، التي ضاقت ذرعا بتصرفاتهم، بعد اتهامها بالانحياز للمغرب.
أما غايات إزعاج المغرب بكلام التحلل من قرار وقف إطلاق النار، فهذا توجه لا يقلق المغرب، الذي لن يقف مكتوف الأيدي إزاء أي مس بحدوده، وهو الموقف الذي عبر عنه بكل وضوح، جلالة الملك محمد السادس، يوم 16 نوفمبر الجاري، في اتصال هاتفي مع الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، حين « جدد التأكيد على تشبث المملكة المغربية الراسخ بوقف إطلاق النار… والعزم على الرد، بأكبر قدر من الصرامة في إطار الدفاع الشرعي، على أي تهديد لأمنها وطمأنينة مواطنيها».
المنطق المغربي، تعاطى بحكمة وسلوك مسؤول مع الأزمة، غايته إيجاد حل جذري لحالة العبث المتجددة بأمن المنطقة ووضع حد للإضرار بالمصالح الاقتصادية التجارية الراسخة بين المغرب وموريتانيا والجوار الإفريقي. لذلك تمسك المغرب بنهجه المعتاد المتمثل في سياسة ضبط النفس، ليحقق مكاسب سياسية جديدة، تجسدت أولا في وضع طوق أمني على طريق العبور مع موريتانيا الذي يسيل لعاب الجزائر، ثانيا الاستنكار الدولي لتصرفات البوليساريو وتأييد العميلة العسكرية المغربية بالمنطقة، ودعوة مجلس الأمن مؤخرا الأطراف المعنية بالنزاع إلى التوافق على حل سياسي واقعي دائم لمشكل الصحراء، تجديد التأكيد على أن الجزائر تعد طرفا رئيسيا في هذا النزاع، فضلا عن تأكيد العديد من دول العالم على أن المبادرة المغربية للحكم الذاتي تبقى الحل الأنسب لهذا المشكل.
النظام الجزائري من دون شك بصدد إحصاء حجم الخسائر التي تكبدها، في انتظار مفاجأة المغرب بقنبلة موقوتة أخرى. أما البوليساريو فتتحدث مصادر إعلامية عن صراعات جديدة داخل قيادتها جراء درس الكركرات، وما واكبته من قرارات انفعالية زادت من تأزم أوضاعهم الداخلية، قد يكون أول ضحيتها زعيم الانفصاليين إبراهيم غالي الذي حمل مسؤولية الأضرار التي لحقت بمشروعهم الوهمي.
لابد من الإشارة في الأخير، إلى الموقف الموريتاني، الذي يلاحظ أن قيادته حرصت على سلوك دور المراقب دون أي تدخل رغم أنها معنية ومستهدفة، بما يعكس الموقف المعتاد في التعاطي بحيادية مع النزاع المغربي الجزائري، وسأخصص مقالا فريدا لتحليل الموقف الموريتاني المتزن، الذي يحتاج إلى فهم عميق وواع.


الكاتب : محمد بنمبارك، دبلوماسي سابق

  

بتاريخ : 25/11/2020