نصوص سردية

1 ـ شاطئ بلا وباء

على هذا الشاطئ لم تعد لك من متعة، فقد أصبحت خطواتك تتشنج وأنت تنظر إلى ما كان يسمى من قبل « ممر أقدام» أو «مارشا بيي» بلغة مارتين الرجل الذي أعطى اسمه لهذا المكان، أيام كانت ذات «سُكّانه الأصليين» مقيدةً خرساء. بينما يقشعرّ جلدك وأنت ترى إلى ما أصاب بناياته التي كانت صغيرة دافئة من تورُّمات سرطانية لا علاج لها، تتنكر لأيامها الأولى، وأعجب كيف لا يتوقف ما أصابها إلا امتدادات وباء، ساعة بعد ساعة ، نهاراً بعد نهار، وكأنْ قد جن ساكنوها، فهم بدَلَ تناول أدوية يضيفون إلى دائها ما يضاعف من وبائها الذي لا يلبث يزداد .
فكيف يريد لك محدثك ألا تدمع عيناك، وهو يدعوك إلى ما كان حاناً أمتعتك جلساته، وما امتدت إليك به أيادي نُدُلهِ، أيام صباك.
وما كان رملاً ذهبياً تجيء وتذهب فوقه أجساد نافرة لكن تأبى أن تفارقهأ الروح، وكل الناس، من عابرين ومستحمين بلا فوارق في ما يجمعهم ، أو يُرتِّب ُعلى الرمال أوضاع استجمامهم. لم يعد ما كان كما كان، حين لم يتعملق بين الناس سوى فوارق فاحشة، ففرقت بين قلوب وقلوب حين شاهت نفوس ونفوس، ولم تجمل وجوه وإن علتها أصباغ زائفة.
ينتهي إلى سمعك من ينشد حنينًا إلى ماضٍ، فترفض أن تذرف تنهيدة ، أو ترسل جفنك بدمع.
فهناك أفواج من عشاق تداهمنك كأنهم صفوف أشباح تلقيها الليالي تحت سجوف الظلام كأمواج بحر، باردة الخطوات، تحت قمر يطلع جريحاً أحياناً ، باكياً يتأمل ما انهمر من دمعة على امتداد بحر لا يتوقف وجهه عن الحركة، مثلما لا يوقف وجه قمرك عن التحول كل مساء.
وهناك صوت يهجس في أعماقك :
ـ إيه ، يا هذا احمدْ مرور الأعوام والعقود، فقد أصاب غيرك انتفاخٌ أنتَ منهُ سلِمتَ.
فاضحكْ قبل أن تصبح من ضحايا الوباء.
في قبور تشهق أو تتضاحك فسيان فقد أوتيت شيئًا لا يموت حتى وإن امتنع عليك الآن أن تستعرض شيئا منه تحت أضواء شاهقة أو بيوت أو امتنع عليك ألا تحس بخفقات مما بين يديك، أو قريباً منك، وقد كان حلماً أيام كانت خطاك تعبرهذا الممر، حزينا في سكوت.
أيام جوع قلبك إلى دفءٍ وصل، وعطش روحك شوقاً إلى ضوء ، أيِّ ضوء.
فها أنت ذا قد كفت قدماك عن الوقوف، وعيناك لم تعودا إلى البحر وقد نهضت دونك جدران عمى ، وحال بينك وبين أحبابك أنباء وباءٍ، وَقسوةُ هَوْلٍ مُـمِيتٍ.

2 ـ احتراق

سمع صوته وهو يهجس ، في أعماقه التي طالما فاضت آبارها:
ـ فما ذا تُرى، سأصنع بجفاف حلقي وقد حاصرني قيظ شديد، أكثر مما أجترحه حين افتح عينيَّ قبالة ظلمة متاهة بلا حدود.
في مدينة بلا مطر يموت ألف بستان وآلافُ الأطفال ينهارون في أحضان أمهاتهم غرثى يابسين؟
ليس وراء ظلمات هذه الطريق وجه منير كبدر يدلني على حجرة حسنة الإضاءة ، وإن كانت بين أوراق ، يرهق عبؤها عضدي، وأنا في الرياح منثوراُ على سبل شتى كأوراق خريف منذ سالف العصور، دائما كان الخريف مثلي يشتت أوراقه، وأنا كنت أنثرها في أي خمّارةٍ أصادفها وإن لم أجد لديها كرسياً كنت أكتفي بالوقوف لأنهل بكلتا يديَّ من ألف نبعٍ كان يضاحكني ، وأنا أرى إلى وجهي يتشظى في مرآة تنكرني. ليست كمرايا ايام يفاعتي في فضاءاتٍ صحبتُ فيها ألواناً وأصواتاً وأضواءً، ولبستُ أثواب زهو لم أكن أعرف أنني قد أُجَرَّدُ منها بعد حين.
كنت أجلس فيها إلى أوراقي فأسمعها فتسيل عيني، أوراق كان الناس في الأسواق يتقاتلون للحصول على أقل أنصبتها، وقد كانت تتجمع بين يدي بأعدادٍ كنت أسيء تقديرها، اليوم أنا من فقدت أوراقي أمام مرايا كثيراً ما راقصتني، وحينما التقيتُ بها بعد كل ذلك، هاهي ذي تنكرني ، كأني لم أتغط على أسرَّتها بأجمل ما يفترشُ منها، في مدن لم تشكُ يوماً من جفاف ، ولا من تعثر خطى انسابت بها في كل اتجاه، أو قصور أجنحة طارت عليها إلى حيث تشاء، لم تعد لي اليوم من كل ذلك إلا صورٌ ممَزَّقةٌ ، وعيْنٌ إن استطاعت العودة بي إلى شوارع نِعَمٍ كانت تمتد أمامي فإنها لا تفتح في وجهي ما أطلب أن أصل إليه من متع على أية مائدة أو فوق أي سرير، شوارعي الآن أظلمت،
وأضوائي أطفئتْ،
وألواني ذبُلتْ،
وأصواتي أُصيبتْ بخرس مميت، فَحُرِمَتْ أسماعي من همس أي موسيقى تُعيدُ نسغ الحياة في أعماقي .
يا نسغ، أنتَ لو نبضتْ بك أعراقي نجوْتُ واستطعتُ انتظار تدفق ضوءٍ جديد
معه سأُرْوَى منتصراً على كل ما يهدد حلقي بوهيجي حطباً ، تحتَ أيِّ وقود.


الكاتب : أحمد بنميمون

  

بتاريخ : 25/12/2020

أخبار مرتبطة

غدا الجمعة 10 ماي: لقاء حول «جدوى الكتابة اليوم؟» يشارك في هذا اللقاء: إدريس كسيكس، عبد القادر الشاوي، عبد الرحيم

  أصدرت مؤسسة عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية، كما دأبت على ذلك على مدى السنوات الماضية، تقريرها

يرى الأستاذ الجامعي حسن طارق في إصداره الجديد الموسوم ب» الوطنية المغربية تحولات الأمة والهوية»، أنه لا مناص اليوم من

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *