التعليم عن بعد والحجر التربوي

إذا كان هناك من درس نستفيده من دروس كورونا المستجد هو انه أن الأوان لتحقيق إصلاح تربوي تعليمي شامل عبر إعادة هيكلة الادارة على أساس اللامركزية واللاتركيز أو اللاتمركز وذلك من خلال نقل جل الاختصاصات من المركز الى الاكاديميات والمديريات الإقليمية والمؤسسات التعليمية مما قد يساعد على السرعة في التقرير والبث والتقييم والتنفيذ المطلوبة في كل العمليات الإصلاحية وهذا ما سيرفع الإدارة التربوية لتكتسب صفات العقلانية والحداثة .
ان جائحة الوباء قد حكمت علينا اليوم بان نتأهب لمواجهة تحديات ما بعد كورونا وتحديات العولمة « الوبائية « والعولة الاقتصادية وهذا التحدي المزدوج لا يرحم كل من تهاون او تخاذل في الإعداد لاستراتيجية بديلة تواجه كل هذه التحديات ، ولقد صار لزاما علينا نحن ابناء مجتمعات العالم الثالث ان نعي بعمق بان مواجهة كل الأخطار البيئية والوبائية والاجتماعية والاقتصادية تتأسس في المقام الأول على ارساء منظومة تربوية وتكوينية تنشد لدى افرادها الكفايات الأساسية التي تفرضها متطلبات التنمية الثقافية والسياسية والاقتصادية مع ضرورة إرساء النموذج التنظيمي اللامركزي الذي باستطاعته ان يحدث التغييرات النوعية المنشودة .
إذا كنا نرى جهودا قد بذلت من اجل تحديث المنظومة التعليمية وجهودا متواصلة لتكريس اللامركزية و اللاتمركز ،فانه على مستوى الإدارة التربوية والإدارة المدرسية لم يبدل جهد كبير على المستوى التشريعي والتنظيمي رغم أن هيئة الإدارة التربوية تشكل الركيزة الأساس لتنفيذ السياسات التعليمية بخططها وبرامجها ، فبقيت الإدارة المدرسية و الإدارة التربوية عموما على هامش المبادرات الإصلاحية وهامش التحفيز المادي والمعنوي سواء فيما يتعلق بإيجاد إطار ملائم للعاملين في الإدارة التربوية شانهم في ذلك شان نظرائهم في القطاعات الإدارية الأخرى آو الإنصاف في التعويض عن الأتعاب والأشغال الإدارية والتربوية ، كما أن هناك غياب في وضع سياسة محددة للتكوين المستمر, وهو الشيء الذي يؤثر سلبا على وضعية العاملين في الإدارة المدرسية ويحدث عطبا إنسانيا و تقنيا وإداريا و بيداغوجيا داخل الآلة المحركة للجسم التربوي العام , فبقيت إدارتنا التعليمية تعاني من أعراض تمنعها من المساهمة الفعالة في تطوير التعليم. ومن ابرز هذه الأعراض المزمنة التي ما تزال تنهكك الجسم الإداري والتربوي:
1 – المركزية المطلقة حيث القرارات الكبيرة والصغيرة تؤخذ على مستوى الإدارة المركزية مما ساهم في ترسيخ نزعة تقديس النصوص وشخصنة السلطة وطاعة الموظفين للأوامر وتنفيذ التعليمات , فنجم عن ذلك تنامي الانحرافات في التسيير مما يثير الشك حول وجود إرادة سياسية وتربوية حقيقية لإصلاح الإدارة كتوطئة ومدخل لأجل إصلاح التعليم.
2 – عدم حصر او تحديد المهام الجديدة للإدارة المركزية بعد صدور قانون إحداث الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين وتحديد مهامها واختصاصاتها وهو ما لم يرد في الميثاق الوطني للتربية والتكوين (وان كانت الإشارة فيها أن الأكاديميات تمارس ما يزيد عن 12 اختصاصا حسب المادة 162 ، مع اختصاصات أخرى إضافية جديدة ….) مما يتطلب الكشف عن المهام الجديدة للإدارة المركزية في إطار التحول المتجه إلى تطبيق اللامركزية .
3 – تطبيق اللامركزية على المستوى الجهوي ظل معاقا بالبنيات القائمة التي لم يتم تشخيصها بالكامل وخاصة تقويم خبرات الفاعلين ، علاوة على القطائع المكرسة بين الفاعلين في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية مما يجعل التنسيق بين هذه المجالات والقطاعات عملية صعبة . (-محمد فاوبار-)
4 – انعزالية القرارات حيث التواصل يكاد ينعدم بين المصالح الإدارية إن عموديا أو أفقيا وبين الإدارة والمعنيين المباشرين بالقرار:
فعموديا يتخذ القرار بدون استشارة القاعدة أو الحلقات الإدارية الوسيطة ولا يهتم قط بمشاركة المعنيين بالقرار خارج الإدارة الشيء الذي يترتب عنه عدم الاهتمام والسلبية والاتكالية.
إن إصلاح الإدارة التربوية في نفس مستوى اصلاح المناهج والبرامج الدراسية ( فجهاز الإدارة هو المصفاة الكبرى التي تقوم بعمليات تقطيع وتنظيم انتقال المعلومات والمقررات التربوية من الأعلى إلى الأدنى ضمن اطر محددة تمر عبر سلسلة من المستويات الادارية )
إن مبدأ اللاتمركز يقتضي تخويل مهام ذات الشأن المصيري إلى المصالح الخارجية الجهوية والاقليمية حتى لا تبقى هذه الأخيرة مجرد أداة منفذة للتعليمات او للقرارات الصادرة من المركز خصوصا وان هذه الإدارات الاقليمية او الجهوية أصبحت تراكم الخبرات والتجارب سنة بعد أخرى وتتابع وتعايش باستمرار كل الأوضاع والمستجدات التعليمية وهي دائما تواكب هذه الأوضاع وتبحث لها عن حلول مرضية أو مؤقتة إما بتنسيق مع الإدارة المدرسية أو مع السلطات المحلية أو مع المؤسسات التمثيلية المحلية أو مع الفروع النقابية وجمعيات الإباء وجمعيات المجتمع المدني وهذا ما اكسبها من الخبرة والنضج والدراية ما يعينها لتجاوز كل الصعاب والتحديات ويسمح لها بتحمل اختصاصات جديدة في مستوى التفكير والتخطيط والتنفيذ
ان من مبادئ اللاتمركز تسهيل العمل وتبسيط المساطر وإعطاء الصلاحيات الضرورية لمن تناط بهم مهمة تنفيذ السياسة التعليمية من مديرين جهويين واقليميين ورؤساء المؤسسات ورؤساء المصالح والمكاتب مع توفير الوسائل والموارد والإمكانات للتنفيذ وضمان النجاح لكل القرارات والمخططات والمشاريع .
إن اللاتمركز يفرض تفهما أوسع وتصورا اشمل لمفهوم التخطيط الاستراتيجي والسياسة التربوية عامة، إذ من شان هذا الفهم الجديد في تدبير الشأن التربوي ان يساعد على توزيع عادل للمهام مع تحمل المسؤولية والقيام بتنفيذها كما يفرضها أسلوب اللاتمركز
وانه وان حاولت الإدارة المركزية نقل الكثير من المهام او تفويضها للمديرين الاقليميين والجهويين إلا أنه يلاحظ اعتماد أشكال وسلوكات متباينة أو متناقضة في التسيير والتدبير والإشراف تبعا «لاجتهادات» وانطباعات تغلب عليها الذاتية والخصوصية تارة أو تقوم بتدخلات إدارية عشوائية و قد تنبطح او تنحني وتستسلم أمام قوة هذا اللون النقابي او ذاك وأمام هذا المسؤول أو ذاك ، إضافة إلى نوعية الموظفين الذين يعينون أو يكلفون بتسيير المكاتب والمصالح وفي غياب التجهيزات والوسائل والموارد اللازمة … لذا لا بد لإنجاح وانطلاق اللاتمركز القيام أولا بتقويم الأساليب المتبعة في التسيير الإداري والتربوي ومدى صلاحية الكفاءات المعتمدة والموجودة.
إن اللاتمركز الاداري يتطلب وضع استراتيجية شاملة محصنة بقوانين ومساطر تساعد المسؤولين الجهويين والإقليميين ورؤساء المؤسسات وتدعمهم مركزيا من كل المؤثرات الخارجية التي قد تحد من مبادراتهم وصلاحياتهم وتجاوز الإجراءات والقوانين المعتمدة مركزيا .
وإجمالا يمكن القول إن الإطار التشريعي والتنظيمي في مجال التسيير والتدبير اللاممركز قطع اشواطا لا باس بها ، لكن هذا المجهود التشريعي والتنظيمي يحتاج إلى تأهيل متعدد المستويات للإدارة العمومية كلها ، والى اصلاح بنية المؤسسات العمومية ذاتها ـ الامر الذي يقتضي حربا ثقافية على النزعة التسلطية في الأساليب الإدارية وتغييرا مستمرا في أساليب القيادة في التنظيمات الإدارية … واللامركزية هي الالية والأداة السياسية الكفيلة بتفكيك تمركز السلطة التربوية وتوزيعها على الجهات والإقليم وكل الوحدات الاجتماعية والتربوية المحلية والصغرى …فهل زمن ما بعد كورنا كفيل بتسريع وبلورة نهج اللامركزية واللاتركيز في قطاع التربية والتكوين ؟


الكاتب : ذ: محمد بادرة

  

بتاريخ : 07/01/2021