«عناقيد الغضب»، كلما تعتّقت صارت أطيب

أحمد المديني

لا يُحسَب التاريخ بالأيام، الأعوام والأحقاب، وحدها. يمكن، خلافا للمؤرخين وفهمهم لحادثات الزمان، أن نستعيده، ونقيِّد أمس واليوم بالأفراح والأتراح، كذلك، بالانتصارات والهزائم، بما حققنا من فوز أو بالكبوات، بالخسران المبين، وبالنسبة لهذه الأمة فهو عين اليقين. هذه طريقة للتأريخ عند الأدباء، لدى المصروعين مثلي بأحلام انقلبت كوابيس، وآمالٍ ذهبت سُدى وتبددت هباءً منثورا. قصيدة واحدة لمحمود درويش(سجّل أنا عربي) تؤرِّخ لميلاد الثورة الفلسطينية، وقبلها قصيدة (شنق زهران) لصلاح عبد الصبور، وسابقتها الأمّ لحافظ إبراهيم، لنرى المشانق التي نصبها الإنجليز لإعدام فلاحي قرية دنشواي وطلوع فجر وطنية (1906).
إن يوم 14 يناير 2011 أيضا وساعات وقُبيله، كانت كافية لتهز جبالا من الجمود والكمد وما لم يفكر في زلزلته أحد، باختصار زوال ورحيل دكتاتور. ثلاث وعشرون سنة قاسى فيها الشعب التونسي امتدادا ويلات تسلط رهيب، رأيته بأمّ العين، تحولت البلاد إلى سجن كبير والأمن العام والخاص يبطش بمن يشاء، وبن علي، وريث بورقيبة ذي النزعة الوطنية حقا والمتورّمة شططا، ينهب البلاد هو وأصهاره وأذنابه، يملأ السجون ويدوس على من يشاء. أيام من قبل كانت الحناجر تلتهب في شارع بورقيبة بالعاصمة بشعار واحد عربي وفرنسي: (بن علي dégage)؛ (إرحل) وشعوب أخرى تحملق في الشاشات وتتلفت حولها ذاهلة كيف يحدث هذا في هذا البلد الصغير الذي حُكم بقبضة جبابرة، وفي ليلة 14 وأمام مبنى وزارة الداخلية الرهيب والشارع خالٍ إلا من الجن رجل أخطر من الجان من قلب الشعب يصرخ نشوان وما هو بسكران: (بن علي هرب! بن علي هرب!). لم يكن يهذي إذ اقتيد الدكتاتور سرّاً صبيحة يومه إلى مطار قرطاج وامتطى طائرة أقلته هو وعائلته إلى العربية السعودية فاراً بجلده. المسلسل معروف بعد ذلك، اشتعلت الغيرة لا بسبب الحب وإنما الانتفاضة، هاجت عواصم أخرى، المصريون الذين نزلوا إلى(ميدان التحرير) انتهت في 11 فبراير بأحداث دامية وتنحّي مبارك ليسقط دكتاتور ثان، ثم كرّت السبحة في اليمن وليبيا والبحرين وسوريا، نعم أجهضت كلها لكن الشعار خرق أسوار قصور الرؤساء والثكنات والمعتقلات السرية سرى ناراً في الهشيم:(الشعب يريد إسقاط النظام) هستيريا غضب وفرح وعرس مجاذيب.
كنا نحن في المغرب يومئذ بعيدين وقريبين. كنا ولم نكن، تململ الشارع وكُتبت بضعةُ سطور، ثم ها نحن نراوح في نفس المكان. أذكر وجودي صدفة بالدار البيضاء صبيحة 20 فبراير في ساحة الأمم المتحدة، غاب عن نافورتها الحمام يومئذ وتبعثر عشرات الأفراد أقل من مئات الحرس، والكاميرات كانت تصور هؤلاء الضّالين. مساء اليوم نفسه في الرباط قبالة ساحة بالبريد المركزي تجمهر شباب يطبلون ويغنون بالاستعارات وإن يعرفون ما يريدون، منهم استوحيت قصتي كتبتها في الليلة ذاتها بعنوان (الشعب يريد إسقاط بوطاقية) وبوطاقية لقب صاحبٍ لنا محبوب، نادل في مطعم بالرباط كنا نتهمه بالفساد إذا لم يأت الكباب طريا طازجا؛ ونضحك ملء أشداقنا وثمة من يضحك أعلى منا وعلينا، يأكلنا نيّئين مع الكباب؛ فيا للفساد!
مضت الآن عشر سنوات على ما سمته الصحافة الغربية (الربيع العربي) مستوحاة من ربيع الشعوب التي عاشتها بلدان أوربا الغربية ابتداء من 1848 هي بدورها أُجهضت واحتاجت إلى قرن تقريبا كي يشتعل لهيب ثورتها. ذلك أن ما (تحتفل) به الشعوب العربية، لو عندها نزر تذكّر، هو إجهاضُ ربيعها، وللمستبدين أن يحتفلوا به عيد انتصارهم عليها، باستتباب الخوف الذي ظن المقهورون أنهم كسروا حاجزه، ومصادرة حقوق حسبوها ستستعاد، وكيف بالخلاص من بطش واستقواء وفساد. لا حاجة للقيام بعرض وإحصاء أسباب الإجهاض، فثمة اختصاصيون فيه هو والعمليات القيصرية، أترك لهم هذه المهمة، سياسية توثيقية حقيقية، أو قذرة. كم تبحّروا واجتهدوا ليأتوا لنا بتحصيل الحاصل، من قبيل أن الإخوان المسلمين هم الذين انقضوا على الانتفاضة وكسبوا جولتها في تونس ومصر، وهو صحيح، وأن هذا الربيع ليس إلا مؤامرة على ثورة كانت في كمون، وتحالف فيها ساسة واشنطن مع الإسلام السياسي، وهو رأي وجيه، وعبوراً إنها الجيوب العميقة والقوية صاحبة المصالح الثابتة هي التي تصدت بالعنف المضاد لانتفاضة الشعوب العربية وأغرقتها في سيول الدم والقمع وإصلاح التضليل. ثمة من يهوِّن الأمر ليقول إننا حين نتحسس بعد عشر سنوات الجراح المثخنة في جسد هذه الأمة من تفاحش الإرهاب وتشريد الملايين من ديارهم وانهيار الدولة الوطنية في بلدان وبداية تفككها في أخرى ومثله، فإن مطلب الديموقراطية يبدو كأنه ترف، بمعنى لنحافظ على دولة الاستبداد بكل ترسانتها ما يوافق هوى قوى إقليمية وضعت يدها على المنطقة ويلغي الشعوب.
..والآن، بعد أن قطفوا «عناقيد الغضب» سقاهم شتاينبك حتى الثمالة، بينا الناس عطشى، تكالب عليهم الوباء قد كمّم أفواه الوجود، هل سيكتفي بقطعة خبز وشاي فقط عبد الودود، أم ترى أحلامه تلك المجنونة ستعود، ويقارع السياف مسرور كي يقتصّ لأهله في دنشواي ذات يوم موعود؟ أكرر أني لست معنيا بنهج المؤرخين وتقارير المأجورين، وأحتفظ بنصيبي من الحلم شأن الأدباء العصاة، فأنا مثل زهران».. مدّ إلى الأنجم كفّا/ ودعا يسأل لُطفا/ ربما سورة حقد في الدماء/ ربما استعدى على النار السماء». وأومن بحكمة الروائي، قول نجيب محفوظ من خطاب تسلّم نوبل: «رغم كل ما يجري حولنا فإنني ملتزم بالتفاؤل حتى النهاية(…) لولا النصر الغالب للخير ما استطاعت شراذم من البشر الهائمة على وجهها عرضة للوحوش والخوف والأنانية، أقول لولا النصر الغالب للخير ما استطاعت البشرية أن تنمو وتبدع(…) غاية ما في الأمر أن الشر عربيد ذو صخب، وأن الإنسان يتذكر ما يؤلمه أكثر مما يسره».

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 27/01/2021

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *