ثلاثية المغرب، فرنسا، الجزائر.. الذاكرة، الجيواستراتيجية والأمن

عبد الحميد جماهري

1 – تهدئة الذاكرة بتوتير الحاضر

تمر العلاقات الفرنسية الجزائرية، بلحظة معقدة، تتشابك فيها السياسة الراهنة، الذاكرة البعيدة-الذاكرة التأسيسية، والذاكرة القريبة والقضية الأمنية والرهانات السياسية في المنطقة المغاربية.
وقد وجدنا أنفسنا، كبلاد جارة وصديقة، بالنسبة لهما، جزءا من هذه المعادلة، التي يتبادل التاريخ والحاضر فيها الأدوار، ويعيدان تعريف الجيو-استراتيجية.
كيف حدث هذا؟
لننطلق من تعريفات الضرورة..
كل الشعوب، التي تمر بلحظات دموية، وتراجيدية، بسبب الحروب أو القمع أو صراعات الدين، تجعل من الذاكرة رهانا للمصالحة مع ذاتها، وأحيانا رهانا مع المستقبل، ومن أجل المستقبل.
حدث ذلك عبر التاريخ، والكثير من الدول يسائلها ماضيها، من هذه الزاوية.
وهنا يكون الرهان زمنيا، وجوديا، تطهيريا في واقعيته …بالرغم من طبيعته السياسية في المنطلق.
بعض الذاكرات، تحيل الموضوع على سياسات شعب آخر، كما في القضايا ذات الصلة بالاحتلال والاستعمار والحروب ..
ويحدث ذلك الآن مع الجزائر وفرنسا.
والجارة الشقيقة، من القلة القليلة من الدول (مثلها كمثل تركيا العثمانية مع الأرمن مثلا )، التي تجعل من الذاكرة التراجيدية، ماضيا، رهانا جيو-استراتيجيا، راهنا، وتجعله رهانا جغرافيا، وسياسيا، وديبلوماسيا ، ومكانا للتموقع في الجيو-سياسة ، لا تموقعا في الزمان والرمزيات فقط.
وإذا كنا نسلم بأنه لا أحد يستطيع أن يتردد في إدانة الاستعمار الفرنسي على جرائمه البشعة في حق الشعب الجزائري، سواء في الحرب المباشرة أو في التجارب النووية، التي آلمت الشعب واستصغرت وجوده لفائدة التفوق الحربي النووي، وأحيانا العرقي، فإن ذلك لا يمكن أن يعفينا من ضرورة الاقتراب أكثر من »الاستعمالية« السياسية النفعية لهذه القضية العالقة في التاريخ وفي اللاوعي الجماعي للشعوب في المنطقة عموما والشعب الشقيق خصوصا.
إن اعتبار استعادة الذاكرة المؤلمة فعلا نضاليا، ورمزيا صانعا للهوية إزاء العدو السابق، هو إعلاء للحقيقة حولها، بما يرفع من المنسوب الأخلاقي للدولة التي تدافع عنها، كما قد يرفع من المنسوب ذاته لدى الدولة التي اقترفت الجريمة عند امتلاك الشجاعة للاعتراف بها، وهاتان الدولتان هما على التوالي الجزائر وفرنسا.
فهذه الذاكرة، هي من حيث المنطق، ذاكرة ميلاد الدولة الجزائرية الحديثة.
وهي بهذا التوصيف جزء مرتبط بكل ما يتحرك ضمن المسارات الحديثة للدولة.. وقد تحتاجها، بفعل الوضع الراهن كإسمنت لتقوية شرعية بدأت طبقاتها العميقة في التفسخ والتآكل، بل أن الشعب، سيد هذه الذاكرة وحاضنها بلا منازع، بدأ يعتبر الدولة هي الاستعمار نفسه الذي تحرر منه وعاد إليه بِلباس وطني!
وبذلك تصبح الحقيقة حول ماضي فرنسا في الجزائر، نوعا من ميزان القوى الداخلي، وقد يكون مشروعا، ومن ميزان القوى الخارجي، وهنا تكبر دائرة الشك في حق دولة الجزائر، التي تخضع شرعيتها لامتحان الحاضر، من طرف صاحب الذاكرة الجماعية، في أن تدرج بلادا أخرى، هي المغرب في اعتماد العقدة التاريخية، كوسيلة ضغط في الاختيارات الراهنية لدولة فرنسا، ضد دولة جارة؟
بالنسبة لفرنسا، يبدو أن ماكرون، الذي تصادف أنه كان تلميذا وسيما للتفلسف، باعتباره مساعدا للشهير »بول ريكور«، لا يرى أنه هناك شيء مايمنع الحقيقة، وهي موضوع باكالوريا شخصية في الفلسفة لما كان تلميذا، ولا شيء يمنع الحقيقة من أن تعيد ترتيب الذاكرة بما يُخْضع الدولة الفرنسية لامتحان الضمير….
ولهذا تم تكليف مؤرخ ذي ماض تروتسكيٍّ هو »بنجامان سطورا«، وأحد أبناء الجزائر الفرنسيين، للنظر في هذه الحمولة السلبية الثقيلة لذاكرة فرنسا في الجزائر.
وعلى عكس التوقع، بالرغم من خطوة لا سابق لها، لم تنظر الجزائر نظرة إيجابية إلى عمل ماكرون وتقرير بنجامان ستورا.
والملاحظ أن الاختيار الذي اختارته الجزائر هو ما سماه أحد المعلقين بتطبيق “استراتيجية التوتر لدفع الفرنسيين إلى الأقصى وجعلهم يتنازلون” .
فطالبت دولة عبد المجيد تبون بالاعتذار، والحال أن تقرير »سطورا« الذي يعتمده الرئيس الفرنسي أساسا لسياسته حول الذاكرة، لا ينص على تقديم اعتذارات أو إعلان التوبة من ماضي بلاده في الجزائر.
ومن زاوية قراء ة مغربية، من حق المغاربة أن يروا أن التوتر اتخذ صبغة تتجاوز الاعتذار أو التوبة، إلى تعزيز ملف المطالبة بالتوبة والاعتذار، بـ»مرفقات« جيو-سياسية أخرى، وفي قلبها الموقف الفرنسي المطلوب إزاء قضايا المغرب الحيوية.
ويكفي هذا التزامن الغريب بين محاولة تهدئة توترات الذاكرة بتأجيج النقط الخلافية ذات العلاقة مع المغرب، وهي ملفات تتمثل في افتتاح حزب »الجمهورية إلى الأمام، »الذي ينتمي إليه الرئيس ماكرون، لمكتب له في الداخلة، ورفض تصريحات وزير الخارجية الفرنسي حول دعم الحكم الذاتي، مع ما صاحبها من تنويه بالتنسيق الأمني المغربي الفرنسي الذي جنب بلاده حمام دم…

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 15/04/2021

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *