عام من العزلة 4 : عبد الهادي الفحيلي: اكتشفت أني مجرد رقم في فم الوجود

ليست قرية «ماكوندو» التي كتب غارسيا ماركيز عن عقودها العشرة من العزلة في رائعته «مائة عام من العزلة».. إنها العالم وقد انتبذ ركنا قصيا من الحياة، يترقب ما وراء العاصفة. عام من عزلة موبوءة، لايزال العالم، يتفصد عرقا من حرارتها، يتحسس أعضاءه ويطمئن على سلامة الحياة داخل رئتيه.
يقال إن الأدباء أبناء العزلة الشرعيون، ففي عزلتهم يكتبون ما يرمم المبعثر، وما يجعل الإحساس متقدا يقظا بما حولنا.
اليوم، وبعد عام على الوباء نطرح على هؤلاء الأبناء سؤال: كيف استثمرتَ هذه العزلة؟ هل أوصلتك الى نقطة عميقة في الروح؟ هل كتبتَ بنضج وأنت مدفوع بقهرية اللحظة؟ هل حررتك العزلة؟ ( بيسوا: الحرية هي امتلاك إمكانية العزلة) سيأتيك الجواب على لسان الراحل محمود درويش: «نفعل ما يفعل السجناء وما يفعل العاطلون عن العمل
نربي الأمل».

 

في بداية الحجر تحول البيت إلى زمن ضيق يطفو عل وجه الزمن، زمن يلوذ بالتلفاز والهاتف، بالمطبخ والشرفة وسطح البيت، واستجمعت الأحلام نفسها في واحد أضيق من تنهيدة؛ أن تخرج إلى الزمن الفسيح كما كانت الحال في السابق.
أدركت حجم الخسارات التي تموج في داخلي رغم توفر كل ما أحتاجه في البيت. فأن تحس بنفسك مقيدا لن تطفئه الثلاجة الممتلئة ولا التلفزيون ولا المكتبة العامرة ولا ما يتوفر لديك في البنك. الإنسان لا ينعزل إلا إذا اختار ذلك بمحض إرادته، أما لأن هناك من فرضه عليه، وعندما يفتح التلفزيون أو ينظر إلى هاتفه تفاجئه أخبار وأرقام الإصابات والموتى، فذلك يصيبه بالرعب، وإن كان صلبا فسيصيبه القلق على أقل تقدير. القلق وحده كان أكبر إنجاز في هذه الفترة، وثمة قلق آخر يستنبت جذوره الآن؛ القلق مما سيأتي..
خارج البيت يحدد الآخرون مسار خطواتك وشكلها ووقتها، قد تستسيغ ذلك لأن ثمة ظروفا قاهرة. أما في الداخل فأنت واهم إذ تتبجح بأنك سيد نفسك، وأنك، أخيرا، وجدت السبيل للتصالح مع ذاتك إذ عرفت طريق المطبخ وطريق ترتيب الأثاث والثياب، وسنحت لك الفرصة العظمى لمجالسة أهلك طويلا. في الداخل يحدد الآخرون، أيضا، مسار تنفسك إذ تطالعك وجوههم وأصواتهم على الشاشة تنبهك إلى ما يجب عليك فعله في الخارج ويحذرونك إن لم تلتزم بما يقولونه لك.
إن كانت العزلة وطنا للأرواح المتعبة، كما عبّر همنغواي، فإنها ليست كذلك هذه المرة، بل كانت عقابا فرض علينا بسبب أشياء تحدث في جهات لا ندري شكلها. لا أنكر أن فرحا خفيا انتابني، في البداية، عندما علمت مثل غيري أن الحكومة قررت فرض حالة الطوارئ، وعلى أثرها ستغلق علينا في بيوتنا. وضعت برنامجا يتضمن مواعيد النوم والاستيقاظ، ومواعيد إعداد الدروس لتقديمها عن بعد للتلاميذ. مواعيد القراءة وإنجاز بحثي الجامعي، ومواعيد مشاهدة الأخبار والأفلام المؤجلة. في الأسبوع الأول كان ثمة حماس لهذه البرمجة: قرأت وكتبت وشاهدت. بعد ذلك دخلت في دوامة من الضجر.
شيء واحد لم يستقم لي: الكتابة… كنت مشغولا ببحث جامعي حول السينما وغرقت في النظريات والمفاهيم. كانت تنتابني الأفكار والصور واللغة لأكتب قصصا، لكني لم أستطع وأيقنت أن الإبداع حول شيء ما يلزمه الابتعاد في الزمن عنه، والابتعاد في النظر والتفكير حتى تصفو الأمور في الذهن. نحتاج دائما إلى تلك المسافة بيننا وبين الأشياء والأحداث كي نستطيع التفكير فيها جيدا والكتابة عنها. كل ما كتبته لا يتعدى فقرات صغيرة لم تقنعني كي أضمنها كتابا.
اكتشفت أني مجرد رقم في فم الوجود. عندما كنت أسمع صفارات سيارات الشرطة والقوات العمومية أدرك أن من كنت لا أنتبه لهم إلا إذا دعتني الضرورة لزيارتهم في الإدارات والمكاتب، أو أصادفهم في الشارع ينظمون المرور أو يحفظون الأمن، صاروا أكثر وجودا، وبالأحرى هم سادة الوقت والحال، يقررون متى تدخل ومتى تخرج، وانعزلت عن العالم بإرادتهم.
كنت أقرأ كثيرا لأني في الأصل أقرأ. زادت وتيرة القراءة بفعل الوقت السانح، لكن سرعان ما تملكني الضجر لأني اشتقت إلى قهوة الصباح والمساء، وصرت أخرج لأبحث عنها في بعض المقاهي التي تفتح كوة يمد من خلالها أحدهم لك كأس قهوة كأنه يسلمك قطعة مخدر، لكني تعلمت كيف أعد قهوتي في بيتي.
علمتني عزلة كورونا كيف أعيد بناء العلاقة مع الأشياء الصغيرة التي تاهت بين المشاغل اليومية الكثيرة؛ عددت الدرجات الفاصلة بين السطح وبيتي. حسبت قطرات الماء وحبات العدس والفاصوليا في بعض الوجبات، وكيف يمضغ ابني الأكبر الطعام واكتشفت أنه يأكل بسرعة، ويا للعجب، أصبح أضخم مني. انتبهت إلى تنانير المذيعات في التلفزيون وتصفيفات شعورهن، وألوان ما يصبغن به شفاههن.. شممت عطورهن حتى.
اكتشفت أن الآخر الذي كنت أنظر إليه وجوديا وفلسفيا كُسِي دما ولحما، بل صار المقربون، الذين كنت أحييهم وأعانقهم، جحيما حقيقيا يجب الحذر منهم. وعندما أسمع أن الوباء قرب المسافات النفسية بين البشر أضحك؛ أي تقارب يا هؤلاء؟ يعطس ابنك فتنظر إليه بقلق، لا يجلس أحدهم إلى المائدة حتى تسأله إن غسل يديه بالماء والصابون ألف مرة. لا تدخل إلى البيت مثقلا بالمشتريات حتى يأتيك الأمر هادرا: انزع حذاءك قبل أن تدخل، بدل ثيابك هناك، وبعد أن تضع الأشياء في المطبخ اغسل يديك جيدا ولا تقبل ابنك الصغير حتى تعقم شفتيك.
تغيرت الأشياء وما أنجزته لا يتجاوز بضع تنقيحات في كتاب قصصي مركون في الحاسوب، وفي رواية كنت أمني النفس بإتمام كتابتها مع نهاية رمضان الماضي، وها رمضان على الأبواب ولم تكتمل. لكني قرأت كثيرا وشاهدت أفلاما كثيرة، وجلست مع نفسي زمنا عظيما.
العزلة التي يختارها المبدعون والفلاسفة والمتصوفة لا تشبه عزلتنا هاته، وهاهي تباشير وجه آخر منها يلوح في الأفق. تلك عزلة أخرى غير التي فرضت علينا، عزلة بمثابة “كفاءة المؤتَمن على نفسه.. أن تكون قادرا على أن تكون وحيدا.. انتقاء نوع الألم والتدرب على تصريف أفعال القلب بحرية العصامي”، كما قال صاحب “أثر الفراشة”. عزلتنا تسلحت بالتلفزيون والويفي والثلاجة المملوءة، اخترقتها صرخات أطفالنا الصغار والشراهة في الأكل، والانكباب على تعلم وصفات الطبخ والأمل في الخروج يوما لمعانقة الشارع وعيون الآخرين وزيارة الأحباب والأقارب بدون حواجز في الطريق ولا مراقبة.
مر أكثر من عام واللعبة الوحيدة التي تتسلط أكثر وتكبر هي لعبة القلق الذي يستفحل ليصير مزمنا، فنكتشف أن الزمن الذي كنا نتوهم أننا نتحكم فيه هو الذي يتحكم فينا، ونكتشف أنه دائرة نتخبط فيها وليس خطا مستقيما يمتد إلى الأمام.


الكاتب : إعداد: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 17/04/2021