عام من العزلة … محمد الشايب: العزلة مسرح الإبداع

ليست قرية «ماكوندو» التي كتب غارسيا ماركيز عن عقودها العشرة من العزلة في رائعته «مائة عام من العزلة».. إنها العالم وقد انتبذ ركنا قصيا من الحياة، يترقب ما وراء العاصفة. عام من عزلة موبوءة، لايزال العالم، يتفصد عرقا من حرارتها، يتحسس أعضاءه ويطمئن على سلامة الحياة داخل رئتيه.
يقال إن الأدباء أبناء العزلة الشرعيون، ففي عزلتهم يكتبون ما يرمم المبعثر، وما يجعل الإحساس متقدا يقظا بما حولنا.
اليوم، وبعد عام على الوباء نطرح على هؤلاء الأبناء سؤال: كيف استثمرتَ هذه العزلة؟ هل أوصلتك الى نقطة عميقة في الروح؟ هل كتبتَ بنضج وأنت مدفوع بقهرية اللحظة؟ هل حررتك العزلة؟ ( بيسوا: الحرية هي امتلاك إمكانية العزلة) سيأتيك الجواب على لسان الراحل محمود درويش: «نفعل ما يفعل السجناء وما يفعل العاطلون عن العمل
نربي الأمل».

 

غالبا ما ألوذ بالعزلة هربا من الضجيج، ويوما بعد يوم أزداد ميلا إلى هذه الحالة الصوفية التي تتيح لي فرص الانزواء وحيدا والإنصات إلى الذات، والتملي بالأفكار وهي ترفرف في سماء الصمت. تمنحني العزلة أيضا أسفارا أجوب خلالها مناطق الماضي والحاضر، فأتسلق جبال الأيام، وأتدحرج في منحدراتها.
حينما تتحقق العزلة التامة، تهب رياح العواطف وتزحف سحب الذاكرة وغيوم المعيشي وعباب المتخيل، فيهطل الإبداع، ويصير يسيرا بعد عسر، فتحضر شخصيات وتتوالى أحداث وتنهمر أحاسيس، وتحل أزمنة وأمكنة، وتذوب الروح ومعها الجسد في جذبة الإبداع.
لا أستطيع الكتابة إلا وأنا وحيد، وبين أربعة جدران وباب موصدة، كأن الإبداع لا يحلو له زيارتي إلا حين أكون في حالة خلوة روحية تخط تضاريسها ثلوج الصمت.
تمثل العزلة مسرح الإبداع بالنسبة إلي، في فضائها العجيب تتحرك بحيرة الأحاسيس، وتهطل العبارات، وتروق للمبدع السباحة في أمواج السطور.
لكن العزلة التي فرضتها كورونا عزلة غريبة وقاسية، فالفيروس اللعين اعتلى منبر الاهتمام، وسرق كل الأضواء، وسيطر على خرائط الأخبار، فأصبح وأضحى وبات أهم حدث تشهده البشرية في مطلع الألفية الثالثة، وكما فرض نفسه على التاريخ ليسجله بمداد الألم والحسرة، ويضعه في رفوف الأيام المظلمة من حياة البشرية، فرض نفسه أيضا على الإبداع ليعبر بشتى الأدوات والفنون والسبل عن هذه المرحلة العصيبة من تاريخ الإنسان.
إن الإبداع الذي ظل يرافق الإنسان في كل مراحل حياته، وغدا يفصح عن أفراح وأحزان البشرية بشتى ألون الخلق وضروب الابتكار، ويقطع المسافات البعيدة في الوصف والتصوير مسلحا بالواقع والخيال، لا شك سينتج روايات وقصصا وقصائد ومسرحيات وأفلاما سينمائية ولوحات تشكيلية .. كنتيجة طبيعية لتفاعل الإبداع مع أزمة كورونا والعزلة التي فرضتها.
الفيروس اللعين قلب الأمور رأسا على عقب، واستبد بالأماكن، ورسم على وجه الأيام مختلف الأزمات، وصال وجال، ومازال يسير بيننا، غيّر السلوكات، وزاد في المعجم العلمي والشعبي على حد سواء، معه أقفلت الأبواب وألغيت المواعيد، ونشر الخوف ألوانه، تهاطلت الهواجس والتوجسات، غابت الأعراس، ولبست الأعياد ثوب الحداد، غابت وسائل النقل عن البر والفضاء، وأغلقت الحدود، وتوقفت عقارب ساعات الأفراح واللقاءات عن الدوران، غزا الوباء تضاريس الحياة كلها وصدح صوت النعي في كل ناد، امتلأت الأسِرَّة البيضاء، واندلعت حرب ضروس بين الحياة والموت، لابد للحياة أن تنتصر في الأخير كما علمتنا دروس التاريخ دائما، لكن الموت استطاع أن يأسر أرواحا كثيرة، ويسرق وجوها يانعة، ويطفئ ابتسامات في عز الاشتعال ..
هي مرحلة عصيبة حقا، فرضت عزلة قاسية لكنها أتاحت الفرص للاختلاء بالذات والإنصات لها، ومنحت المبدع أجواء نفسية ملائمة ليصل الرحم بالإبداع، ويرتمي في أحضانه، ويركب أسفارا نادرة، فتنساب الكلمات وتجود القريحة بإبداعات متمخضة عن الألم.
بالنسبة إلي، أتاحت لي هذه العزلة فرصا للإبحار، من حين لآخر، في مزن الإبداع، فكتبت نصوصا جديدة، وأتممت أخرى ظلت رهينة التأجيل، فتهيأت الظروف لميلاد مخطوط مجموعة قصصية هي الخامسة في مساري القصصي، أرجو أن تصدر، قريبا، في كتاب، وسنحت المناسبات لكثير من القراءات المتباينة، والمشاركة في لقاءات ثقافية عن بعد، واللقاء بكثير من الأصدقاء يوميا عبر شبكة التواصل الاجتماعي، منهم من فرقت الحياة بيني وبينهم سنوات طويلة مما حوّل اللقاءات إلى مناسبات للرجوع إلى أزمنة تبخرت، وأمكنة ابتعدت، وإلى أحداث أصبحت جزءا من ذكريات الماضي لكنها أضحت راسخة في الذاكرة وموشومة في الذهن. عدنا سويا إلى المدرسة وإلى النهر وإلى الجامعة …
وعملا بنصيحة قديمة قدمها لي الناقد المغربي بنعيسى بوحمالة «اقرأ كثيرا واكتب قليلا». فقد فاقت أسفار القراءة أسفار الإبداع. وهكذا كان الوقوف مع امرئ القيس والبكاء من ذكرى حبيب ومنزل، والتنقل في أقاليم الفخر والمدح والهجاء رفقة المتنبي، وزيارة أبي العلاء وهو يتعبد في محراب الزهد وقلق السؤال ويردد «أ بكت تلكم الحمامة أم غنت على فرع غصنها المياد».
وتوالت الرحلات والجولات وتكررت، واختلط السابق باللاحق، والشعر بالنثر والتليد بالقشيب، امتزجت العصور والأجناس والمدارس والتوجهات والحساسيات … فازدادت الأسفار متعة ودهشة وراق لي الرجوع إلى ما جادت به أقلام أساتذتي وأصدقائي وزملائي لأقطف ما لذّ وطاب من جميل القول وسعة الخيال وعمق التحليل.
طال وحلا السمر في رفوف القصة والشعر والرواية والبحث والنقد مع محمد زفزاف وأحمد بوزفور والمصطفى كليتي وأحمد شكر وأنيس الرافعي وسعيد منتسب ومحمد العتروس وخورخي لويس بورخيس وأحمد المجاطي ومحمد بنطلحة وغوستاف فلوبير ومحمد برادة وعز الدين المعتصم وبوسلهام الكط ويحيى بن الوليد ومحمد شويكة وعمر العسري ومراد القادري..
كيفما كانت العزلة قسرية أو اختيارية، ملاذا رحيما أو إقامة إجبارية فإنها تمثل للكاتب واحة فسيحة الأرجاء للتأمل والقراءة ومسرحا حقيقيا للإبداع، فكثير من الأعمال الأدبية المهمة و الخالدة أنجزت وأنتجت بين حيطان العزلة.


الكاتب : إعداد: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 26/04/2021