الكتاب الجامعي المغربي ورهانات الثقافة والتنمية

إلى إدغار موران ومصطفى بوسمينة

 

نظم المعرض الافتراضي للكتاب الجامعي (20 – 27 أبريل 2021 ) في سياق تاريخي هام وطني ودولي يقتضي تثمين ما يمكن تثمينه، ووضع الأصبع، إن دعت الحاجة إلى ذلك، على مكامن الضعف والخلل في أي قطاع كان.
في إطار برنامج المحاضرات المصاحبة لهذا المعرض الافتراضي، اخترت التطرق إلى موضوع:
‹› رهانات الثقافة والتنمية من خلال إسهامات الكتاب الجامعي المغربي في حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية ‹›. سأتناوله من خلال النقط التالية:
1. في الانتساب الفكري، 2- في الثقافة والتنمية، 3- الجامعة والمعرفة وتحديات المجتمع الشبكي، 4- إسهامات الكتاب الجامعي في بناء مسالك التنمية.

1 – في الانتساب الفكري

إن حديثي عن الكتاب في حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية يرتبط عندي بمرجعية يجوز لي أن أسميها – استيحاء من تعبير للخطيبي – بالأفق المتوسطي. أفق تريد الجامعة الأورومتوسطية، التي يرأسها الأستاذ الباحث مصطفى بوسمينة، أن تعيد صياغته بأبعاد جديدة من خلال توطين أسس التنوع الثقافي، والارتقاء بالفضاء البيئي، وتعزيز قيم المواطنة، وإرساء الظروف الملائمة لتلاقح العلوم وتثمين المهارات الناتجة عنها ( أنظر الموقع الخاص بها على النيت).
إن تجربتي المتواضعة في الجامعة الأورومتوسطية مكنتني من بلورة السند الناظم لكثير من إسهاماتي الأخيرة. وهو ما تؤكده هذه المقالة التي أعتبرها بمثابة استضافة للقارئ من منظور أفقها كما بدا لي. وللتذكير فإن الجامعة الأورومتوسطية قد تأسست في فاس بإرادة ملكية سامية لتكون ملتقى خصبا للطلبة من مختلف جهات الوطن، من أوروبا ودول البحر الأبيض المتوسط وأفريقيا القادمين إليها من أجل التكوين في مجالات العلوم الدقيقة، والصحة، والذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيا المعلومات والطباعة الثلاثية الأبعاد… كل ذلك يتم من مسلك لآخر ، ومن مؤسسة لأخرى خارج حدود الأسوار ضمن منظومة ثقافية بالإمكان أن نَسِمها بأنها متفردة، بالنظر للإضافات التي تقدمها على مستوى العرض التكويني. وبالإمكان أن نسمها أيضا بأنها ابتكارية لكونها تأخذ بعين الاعتبار رهانات الحاضر وتحديات مستقبل المجتمع الشبكي الذي تلوح ملامحه في الأفق.
نفهم من هذا أن الجامعة الأورو متوسطية بفاس تتغيا بناء نموذج أكاديمي قادر على تجديد منظومة التعليم وثقافة الجامعة تقوم على بناء الأسس العلمية العقلانية مع مدها بالروافد المغذية للوجدان وعبقرية الخيال. إن الفكر المتوسطي كان سباقا في استيعابه لأهمية هذه العلاقة بين العقل والخيال الروحي والوجداني مع كثير من الفلاسفة من مثل ابن رشد وسان طوما داكان وابن ميمون.
تريد الجامعة الأورومتوسطية بحكم توجهها استعادة هذا الإرث، لكن ليس من منظور تأطير العلاقة بين العقل والخيال الروحي في إطار البحث عن النموذج الأمثل للتكوين، كما كان عليه الأمر في القرون الوسطى. وإنما على العكس من منظور تحقيق الترابط بين العلوم على الرغم من التطور السريع الذي تعرفه على اختلاف أصنافها، وذلك من أجل الارتقاء بالجامعة إلى أعلى التحديات الراهنة. فكيف تقوم بذلك ووفق أية أهداف؟ وما علاقة منظورها هذا بموضوع الثقافة والتنمية من خلال الكتاب الجامعي؟.
قبل الإجابة عن هذه الأسئلة، حري بنا أولا أن نحدد ما نعنيه بالثقافة والتنمية.
من المعلوم أن مفهوم الثقافة واسع وعريض لأنه لم يتسم بأية دلالة مغلقة ( رغم الفوارق التي كانت توضع بين ما يسمى بالثقافة الشعبية والثقافة العالمة ) خلال مراحل تطور تاريخ الإنسانية. فالمختصون في مجالات التاريخ والأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا ربطوا دائما تعريف مفهوم الثقافة بمضامين يتداخل فيها المادي واللامادي، الفني والأدبي والأخلاقي والجمالي. وهكذا جاء تعريف اليونسكو للثقافة معبرا عن هذا التعدد، محددا الثقافة في مختلف أشكال التقاليد والعادات والتعابير وأشكال العمران والسكن. فالثقافة بهذا المعنى والتصور بناء جماعي لا تحتكره أية فئة اجتماعية دون أخرى، ولا ترتبط نوعيتها وأهميتها بمدى تطور أو غنى بلد ما بالنسبة للآخرين، ذلك لأن الثقافة هي بالدرجة الأولى مجال لنشأة القيم المعيشية للإنسان في علاقته مع الآخر والوجود. هذا بالإضافة لكون مجال القيم لا يرتبط بسلم تراتبي نقيس على منواله حضارة الشعوب وثقافتها. وبالتالي لا يمكن تعريف الثقافة من غير أن نقبل بأن ميزتها الأساس هي التنوع والتعدد والاختلاف. ما يسمح باعتبار ثقافة كل شعب، بما فيها تلك الثقافة التي تنم عن الأقليات، بمثابة عطاء محمل في جوهره بعناصر المحلية والكونية. وخير دليل على ذلك ما تقوم به منظمة اليونسكو من تصنيف لشتى أشكال التراث المحلي ومنها صفة الانتماء إلى التراث العالمي.
إن التذكير بهذا التعريف للثقافة، في مدلولها المادي واللامادي، هو تذكير بأهميتها بالنسبة لهوية أي مجتمع كان، كما أنه سمح لنا بالاقتراب أكثر من موضوعنا المتعلق أساسا بثقافة الجامعة، انسجاما مع محاور المعرض الافتراضي المنظم. وعليه لنعيد السؤال مرة أخرى: ما المراد بثقافة الجامعة؟

2. في الثقافة والتنمية
من منظور الجامعة

لقد دأبت الجامعة، منذ إحداثها خلال القرون الوسطى، على بناء المعرفة وصقلها وتقعيدها على أسس أبستمولوجية، وهي في سعيها لذلك، على امتداد تطورها وتحولها خاصة مع الاختصاصات التي وضعها لها همبولت، لا تلغي من مجالات اهتمامها العناصر المكونة للثقافة كما تم تحديدها سابقا. فالجامعة مع تعدد أنشطتها، مازالت تهتم بكل أنماط التعابير الثقافية، على قدم المساواة مع ما تنكب عليه من دراسات حول مختلف المواضيع سواء كانت، أولا، ذات طابع مادي ملموس كالبيئة والمجال وظواهر المجتمع أيا كانت تجلياتها، أو ثانيا، ذات طابع تجريدي، غير ملموس أو مرئي. وهي إذ تقوم ذلك فإنها تروم الارتقاء بكل موضوع تتناوله إلى مقام الفكر والتحليل، ومن ثم فهي تدفع بالإنسان نحو التقدم والرقي.
لهذا وجب التنبيه إلى أننا حينما نربط الثقافة بالتنمية، فإن حرف ‹› الواو ‹› الذي يجمعهما ليس مجرد حرف عطف، بل أداة تفي بمعاني التداخل بين المفهومين، بحيث نفهم من ذلك أن الثقافة هي ركيزة من ركائز التنمية، وأن التنمية هي بدورها مكون من مكونات الثقافة. وما يوحي بهذه الدلالة ويشكل صلبها أن الثقافة التي نقصدها هنا هي مختلف المتون والمدونات والمنجزات التي تنتجها الجامعة بهدف الدفع بعجلة تقدم أحوال المجتمع من حال إلى أحسن حال. وذلك لكون الجامعة لا تنظر إلى مواضيع بحثها من باب الاستهلاك والترف، بل كمجالات للحفز والبناء والتخطي، أي باعتبارها منطلقات لمنجزات الفكر الفاعل، المرتبط بأهداف ونتائج معينة. على هذا الاعتبار ينظر كل من بول ريكور ويورجن هابرماس إلى الفكر على أنه سلطة نقدية، سلطة للخلق والتحفيز نحو النمو.
يستنتج من هذا الطرح أن الثقافة الجامعية تختلف إلى حد بعيد عن الثقافة التي تنتج وسط المجتمع عبر آليات مؤسسات أخرى لها علاقة بالأسر وفئات المجتمع في علاقتها بالأنشطة الترفيهية التي يتعاطونها. إن ثقافة الجامعة تراهن أساسا على تحفيز النمو من خلال المساهمة في تشكيل ميكانيزمات التغيير داخل المجتمع. وذلك خصوصا عبر النبش في أسئلة لا تثير الثقافة العامة فضول طرحها، وبالأحرى البحث في مضمراتها، على هذا الاعتبار يبدو لي من المنطقي أن نستعمل مفهوم المعرفة / Le savoir عندما نتحدث عن إنتاجات الجامعة ونحتفظ بمفهوم الثقافة عندما نستعمله للإحاطة بما ينتجه الإنسان والمجتمع من شتى أشكال التعابير الفنية. إن ما يحدو بنا إلى تبني هذا التصور هو أن الجامعة اليوم حققت انفصالا جذريا عن أصلها الوسيطي (نسبة للقرن الوسيط). فمهمتها بالإضافة للبحث العلمي، لم تعد تنحصر في تلقين طرق الإشباع والتشبع الذاتي في تخصص معرفي ما، يعتبر مصدرا من مصادر الوصول إلى الحقيقة. بل إنها تتوجه إلى تطوير مناهج ومهارات نسج خيوط وعلائق الشبكي بين ما يسمح بمعانقة الآني والآتي، بين الواقعي والافتراضي، بين التقني والفكري، فهي بالتالي تجعلنا نعي مدى التعقيد الذي يطبع العالم، ومدى قصور كل تخصص معرفي في إدراكه من وجهة نظره الخالصة.
إن الجامعة اليوم تجاوزت المهام التي أنيطت بها في القرون الوسطى، وكذلك تلك المهام التي كانت تريد لها أن تكون بمثابة نظام يوحد مختلف العلوم مع الإغراق في التخصص في آن واحد. فمن المعلوم أن السعي إلى التخصص، الذي لا نلغي أهميته، هو الذي كان من وراء تفكك صلة التواصل بين العلوم منذ القرن التاسع عشر، كما أدى إلى ترسيخ ثنائيات تنطوي على مغالطات شتى كثنائيات الفكر والعلم، الخيال والعقل، الأدب والرياضيات… لقد كان من بين نتائج ذلك، التفكك تطور المجتمع الصناعي في اتجاه هيمنة التقانة على حساب الفكر وقيم الإتيقا. ما شجع على الاعتقاد بأن التحكم في هذه الأخيرة يُمكن الإنسان من تحقيق الرفاهية، كما كان يقول بذلك جاك منود في كتابه Le hasard et la nécessité ). لكن الاستثمار في الثقافة والانتصار لها أدى إلى تصدع المجتمعات وتلاشي علاقتها بمحيطها البيئي، الشيء الذي دفع بعض الفلاسفة من مثل هربرت ماركيوز، صاحب كتاب ( الإنسان الأحادي البعد ) ، إلى دق ناقوس خطر تفسخ إنسية الإنسان أمام سلطة التقانة. وللتذكير فإن الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر كان سباقا إلى إثارة الجدل حول مسألة التقانة داخل المجتمع. فهو يعتبر أن النظر إلى التقانة على أنها أداة ووسيلة لتحقيق غايات الإنسان قد أفضى – في حقيقة الأمر حسب رأيه – إلى نسيان الوجود والسقوط في وضعية يطغى عليها الشعور بالغربة والفقد. لذا وجب التساؤل: هل ما زال الإنسان يعيش اليوم تحت وطأة التهديد ذاته؟

3 – الجامعة والمعرفة وتحديات المجتمع الشبكي

في الواقع لقد تغير العالم كثيرا مع نهاية القرن الماضي، إلى درجة يمكن القول إنه يمر بمنعطف جديد تمثل في انتقاله التدريجي إلى مجتمع ما بعد الصناعة، أو ما أصبح يسمى بمجتمع المعرفة أو مجتمع اقتصاد المعرفة، لكن يبقى السؤال مطروحا: هل لدينا في هذا المنعطف الذي يفرضه ‹›نظام التكنو معلوماتي›› ما يسمح بنمط عيش تتحقق فيه قيم الإنسان؟ هل يشكل أفقا رحبا لتوطيد علاقته بالبيئة وتعضيد قدراته من أجل الارتقاء إلى تنمية مستديمة وخلاقة لا تمت للاستلاب بأية صلة؟
لن أرى عائقا في الجواب بنعم عن هذه الأسئلة، رغم كل الأخطار التي ما زالت تحدق بالإنسان. ذلك لأن الترقي إلى مدارج مجتمع اقتصاد المعرفة دفع بالجامعة في العشرينية الأخيرة إلى تسريع وتيرة تجديد معارفها وطرق نقلها وتلقينها. ما جعل تطور العلوم والمعارف لا يتم الآن في إطار النموذج الوضعي، وإنما ضمن نسق متشابك العناصر. إنه نسق يحضر فيه البعد السيكولوجي والأنثروبولوجي بدرجة تدل على أنه أصبح للعلوم الإنسانية والاجتماعية نصيب وافر في تشكيل المجتمع المعرفي الشبكي الذي أخذنا ننخرط فيه. بالنظر لهذا الاعتبار قد نقول بشيء من الاطمئنان أن التفاؤل ينمو من جديد بإمكانية إيجاد السبيل الناجع لبناء علاقة غير مسبوقة بين العلم والإتيقا، بين العلوم الدقيقة والعلوم الإنسانية والاجتماعية. لكن هل لدى الإنسان خيار غير هذا؟ ذلك لأن في عدمه يصير الإنسان مجرد شيء تسيطر عليه الحقيقة العلمية كما تتجسد من خلال آلة الحاسوب والسبرنتيقا وبنوك المعلومات.

لقد كان مارتن هيدغر، كما تمت الإشارة لذلك، يعتبر عن حق بأن غياب الفكر يؤدي إلى الارتماء في أحضان التقانة، وبالتالي إلى العدمية. إن العدمية تتجلى حسب رأيه في نسيان الفكر للوجود وفي طمس أشكال حضوره. ولهذا نجده يشدد على ضرورة تغيير السؤال الذي يقول: ‹› ما الذي ينبغي أن نقوم به ‹›، بسؤال آخر جد هام ‹› كيف علينا أن نفكر ؟ ‹›. بطبيعة الحال وهو يركز على أهمية هذا السؤال قد لا يقنع الكثير لكونه يجعل الفكر تأملا وتأويلا ينأى بعيدا عن الحياة النافعة. تأمل موسوم بعدم الاكتراث بما تأتي به الحياة لنا من أشياء علينا أن نعيشها من غير أن نتساءل لماذا؟ وكأنه يريد من أن نفكر ‹› في الوجود دون الرجوع إلى تعليل للوجود عن طرق الموجود››. وهذا ما قد نعتبره موقفا بعيدا عن الأهداف التي تسعى الجامعة تحقيقها عبر مختلف محاولات الكشف والابتكار والاستنباط. إنه سعي يتجاوب كثيرا مع ما يؤكد عليه مثلا إدغار موران من حرص عل أخذ بعين الاعتبار مسألة تعقيد العالم. فما من فكر لا يولي أهمية لهذا التعقيد يكون مآله الفشل. فمن غير شك أن الجامعة أصبحت اليوم مؤهلة أكثر لبناء هذا الفكر، خاصة وأنها لم تعد تشتغل بالدرجة الأولى على طرق تكامل المعارف، في إطار نظام موحد يهيمن بداخله قطب ما على حساب الآخر. كما كانت عليه في السابق، وفق منظور همبولت، بقدر ما أخذت تنشغل بسبل تجسير المعارف وسد الفجوات، بشكل أو بآخر، بين تلك التي تَصُب في متطلبات المَهْنَنَة وتلك التي تسعى إلى إبقاء المعارف – من غير تمييز- مفتوحة على أسئلة قلق الإنسان والوجود. وبالتالي استطاعت إلى حد بعيد إحداث منطق جديد للتعامل مع العلوم والإنسانيات والتقانات في الصناعي والتكنولوجي.
ويكفي على سبيل المثال، كي يتضح لنا الأمر، أن ننظر إلى محتويات بعض مسالك التكوين بالجامعة الأورومتوسطية ( وربما في بعض الجامعات الأخرى)، كي يتبين لنا طابع التقاطع في ما بين العلوم الإنسانية والاجتماعية وبعض تخصصات العلوم الدقيقة. وذلك من خلال وحدات لم تكن متوقعة سابقا من قبيل: العلوم المعرفية، وعلوم الحاسوب، والمدن الذكية، ولغة التواصل الرقمي… إنه بإمكاننا إعطاء نماذج كثيرة أخرى لوحدات تعليمية تشترك فيها مسالك تطغى عليها مميزات كهذه التي تَمْتَحُ من مجالات مختلف العلوم.
ما يدل على أن الجامعة المغربية أخذت اليوم تتيح لطلبتها إمكانات هامة لتحصيل المعرفة التي تسمح بالإجابة عن سؤال هيدغر: ‹› كيف علينا أن نفكر؟ ‹›، أي أنها أخذت على عاتقها أن تُكون بالأساس بمثابة فضاء شبكي يمتلك الطالب فيه القدرات الفكرية الكفيلة بتناول مختلف الإشكالات من عدة أوجه معقدة، إن على مستوى الجزء أو الكل، أو على مستوى الظاهر والمضمر.

4 – إسهامات الكتاب الجامعي في بناء مسالك التنمية.

إن هذا التوجه على مستوى الدرس الأكاديمي لم يتم فقط تحت طائلة تأثير التواصل القائم بين الجامعة المغربية والجامعات الأجنبية في الدول المتقدمة، بل إنه أيضا وليد خصوصية التطور الذي شهده قطب العلوم الإنسانية والاجتماعية بالجامعة المغربية. فكيف تعاملت هذه العلوم مع الواقع المغربي؟ وكيف تسنى لها أن تستوعب منطق التداخل مع عطاءات العلوم الأخرى؟ وما الذي استطاعت أن تحققه في سبيل التنمية؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها يتطلب الوقوف عند رصيد الإصدارات التي رأت النور من فضاء الجامعة المغربية.
يتبين من خلال القيام بذلك أنها تعكس تنوعا لافتا في المواضيع وأدوات التناول ومنطلقات الرؤى ووسائل الإدراك والتحليل، مع نزعة مائزة نحو التحاور مع كثير من المجالات مع مرجعيات مختلف العلوم الدقيقة.
صحيح قد نتفق مع الرأي الذي يقول بأن معطيات الإنتاج في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية لا يرقى كميا إلى المستوى المنتظر. فالإصدارات السنوية للأساتذة الجامعيين لا تتجاوز 200 عنوان، والمجلات لا تتجاوز 30 عددا سنويا، والأعمال الجماعية تقل عن 40 كتابا سنويا، أما المقالات المنشورة في المجلات الدولية المحكمة فهي نادرة جدا. لكن إذا ما تركنا الأرقام جانبا وتأملنا في حصيلة الإصدارات الجامعية المغربية منذ نهاية الستينات إلى اليوم، سنجد أنفسنا أمام كم محترم من العناوين في شتى أصناف العلوم والمعرفة التي كان لها الفضل في ترقية الأداء المعرفي للجامعة المغربية. وكمحاولة لتقريب المهتم من مدى أهمية الكتاب الجامعي المغربي، وبالدور الذي يؤديه في التنمية، أقترح نمذجة سريعة لحصيلة الإصدارات المنجزة، ما شك أنها ستكون دالة على ما نريد توضيحه:
1.يتميز النمط الأول من الإصدارات الأولى للكتاب الجامعي المغربي بميوله نحو بناء برديغمات تحليلية قصد الإحاطة بمختلف النظم ( Système ) المتحكمة في تشكيل الدولة المغربية وتطورها. لقد تحقق هذا الميول في ضوء مقاربات شمولية يطغى عليها الطابع الإيديولوجي الماركسي والمنحى التاريخاني أو السوسيولوجي الأمبريقي. ويظهر هذا المنحى جليا سواء تعلق الأمر بتناول التدبير السياسي والاقتصادي، أو بتناول بنية العقل العربي أو باستقراء عجلة التاريخ العميق للوطن أو الوقوف عند دينامية تطور المجتمع المغربي، وتشكل طبقاته في القرية والمدينة.
تقتضي الإشارة إلى أن مجمل المؤلفات التي تندرج في هذا النمط الأول ظهرت خلال الفترة الممتدة من نهاية الستينات إلى بداية الثمانينات. وبالتالي يمكن اعتبارها بمثابة الأساس الذي انبنت عليه العلوم الإنسانية والاجتماعية بالمغرب في قطيعة شبه تامة مع الدراسات الكولونيالية. ومن بين الجامعيين الذين طبعوا بصمتهم في هذا الأساس نذكر على سبيل المثال: عبد الله العروي، عبد الكبير الخطيبي، إدريس بنعلي، عبد العزيز بلال، بول باسكون…
2.أما النمط الثاني من الإصدارات الجامعية المغربية، فيمكن حصره في الفترة الممتدة ما بين الثمانينات إلى بداية الألفية الثالثة. يتميز هذا النمط الثاني بإصدارات تندرج في إطار التحليل القطاعي بحيث بدأنا نلاحظ بروز داخل حقل البحث العلمي، توجه صريح نحو المقاربة المتخصصة التي تحاول تسليط الضوء على مواضيع محددة من مثل: تاريخ المغرب خلال حقبة معينة (المرينيين، السعديين، العلويين)، قطاع الفلاحة والزراعة، قطاع الصناعة والتجارة، قطاع الثقافة والسياحة، قطاع العمران، قطاع القانون والعلوم السياسية، قطاع الدراسات اللغوية، قطاع الدراسات التراثية، وتحقيق النصوص، قطاع الصحافة والإعلام، قطاع الفنون، تاريخ الجيش المغربي والمقاومة… وغير ذلك من المواضيع الهامة التي كان من ورائها أسماء وأقلام، التي شقت طريقا طويلا في مثل هذه الدراسات من بينها الحبيب المالكي، فتح الله ولعلو، إدريس كراوي، محمد القبلي، عباس الجراري، محمد بنشريفة ،محمد برادة، أحمد بوكوس، موليم العروسي،الحسين مجاهد، مبارك حنون، فريد الزاهي، حسن نجمي، مراد القادري، أحمد اليابوري، محمد بنيس، نجيب العوفي، عبد الفتاح الزين، محمد العمري، موحى الناجي، فاطمة صادقي، نورالدين أفاية، محمد المعزوز، محمد كنبيب، محمد بريان، حسن رشيق، جامع بيضا، نورالدين العوفي، محمد الناجي، محمد الطوزي، نجيب بامحمد، عبد الحق العزوزي، المكي بن الطاهر، محمد جسوس، عبد الله العلوي مدغري، عبد الله بونفور، عبد الله بنصر العلوي، أحمد العراقي، مصطفى بن الشيخ، آسية بلحبيب، كريمة يتريبي، عبد الحق المريني، مصطفى الشابي، شوقي بنبين … وعلى العموم تميزت هذه الدراسات بالحرص على تطبيق صريح للمنهج والمصطلح، ما يؤكد على أنها ناتجة عن أبحاث نوقشت داخل مدرجات الجامعة.
وتقتضي الإشارة إلى أنه إبان الفترة نفسها كانت تظهر من حين لآخر دراسات لا تقل أهمية تتناول قضايا شائكة ومناهج تستعصي على الفهم السريع، بالنظر لمختلف أبعادها الدلالية من مثل: السلطة والحكامة، الدولة ومؤسساتها، الدين والمقدس، الهوية والغيرية، الهجرة والمدينة، الجنس والنوع، الفلسفة والتاريخ، السيرة والتخييل الذاتي، السردي وبناء ذاكرة الأمة، المرأة والحرية، العمل والعطالة، الحراك الاجتماعي، النص والصورة، وهي قضايا غالبا ما كانت تثير نقاشات صاخبة فتحت المجال لبناء فكر متحرر متشبع بقيم الأنوار. وقد أشير هنا إلى بعض الأسماء التي كان لها إسهام بارز في هذا المجال من بينها مثلا: عبد الجليل لحجمري، بنسالم حميش، عبد الله ساعف، كمال عبد اللطيف، عبد السلام بنعبد العالي، علي أومليل، سعيد بنسعيد العلوي، عبد الإله بلقزيز، علي أمهان، عبد السلام الشدادي، عبد الصمد الديالمي، رحمة بورقية، فاطمة المرنيسي، فاطمة أزرويل، عائشة بلعربي، عمر حلي، عبد الفتاح كليطو، محمد الداهي، عياد أبلال، عبد الفتاح لحجمري، عبد الرحيم العلام، جمال بوطيب، إدريس الخضراوي،…
3.أما النمط الثالث من إصدارات الكتاب الجامعي المغربي منذ بداية الألفية الثالثة إلى اليوم، فيمكن القول بأنه يتميز باتجاهات ثلاثة: أولها اتجاه المراجعة النقدية بُغية تسليط الضوء على مستوى التشخيص والتحليل في ما يخص قضايا لم تنل سابقا بما يكفي حقها من العناية والاهتمام، من مثل: الأدب وإشكالية اللغة والتخييل الذاتي، التاريخ الدبلوماسي، الأدب والتصوف، التاريخ والمظاهر الاجتماعية، الصحراء المغربية، المغرب والعمق المتوسطي والإفريقي من خلال الوثائق… وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى أعمال عبد الأحد السبتي، عبد المجيد قدوري، سمير بوزويتة، بهيجة سيمو، خالد زكري، الزهرة مزكلدي – كريمة يتريبي، رشيدة بوستة. أما الاتجاه الثاني دائما في المنحى ذاته، فلقد أخذ على عاتقه الخوض في مواضيع كانت تعتبر بمثابة طابوهات أو ليست ذات أهمية بالنسبة للبحث الجامعي مثل: مسألة الإرث بالنسبة للإناث، حرية الاعتقاد، الثقافة الشعبية، الأعيان والسياسة، المجتمع المدني، الأدب النسائي، أدب السجون، ومن بين الأسماء التي تشتغل في مثل هذه القضايا: حورية مشيش علمي، رجاء نضيفي، سناء غواتي، فريدة بوحسون، المصطفى الشادلي، عبد السلام وزاني، عبد الرحيم العطري. أما الاتجاه الثالث من إصدارات الكتاب الجامعي المغربي من بداية الألفية الثالثة إلى اليوم، فنلاحظ أنه تميز بصدور دراسات هامة كان لأصحابها باع لافت في مجالات لها صلة بالأدب واللغويات أو الاجتماعيات ثم توجهت نحو أفق فتحها على الرقميات وانشغالات إبداعات التواصل الاجتماعي. ونخص بالذكر هنا مثلا: سعيد يقطين، زهور كرام، محمد أسليم، وآخرون. بعد هذا الرصد السريع والوجيز لأهم القضايا التي شغلت الكتاب الجامعي على امتداد أكثر من أربعين سنة، يحضر السؤال بقوة وإلحاحية: كيف ساهمت إذن، المعرفة الجامعية ببلادنا في بناء التنمية؟
تكمن الإجابة في العناصر التالية، نقدمها على سبيل المثال لا الحصر:
1.لقد ساهمت المعرفة الجامعية من خلال إصداراتها في خلق زمن مختلف من حقبة إلى حقبة، خاصة كلما كان اتجاه الثقافة السائد يخضع لتأثير ‹› الدوكسا›› (رو لان بارت) و›› التصورات النمطية›› الزائفة.
2.المساهمة في خلق إبدالات على مستوى طرائق التفكير ، وإحداث برديغمات جديدة تسمح ببناء قيم المواطنة والعيش المشترك.
3.تقديم التحاليل الناجعة التي تساعد على استيعاب مكامن القوة داخل المجتمع المغربي وما يعاني منه من معوقات وأعطاب.
4.المساهمة في ترسيخ قواعد الفكر العقلاني مع ربطه بمختلف أساليب فهم التطور السريع للعالم الذي نعيش فيه، والسهر على الحفاظ على معالم خصوصية المجتمع المغربي كي لا ينهار بفعل ضغوط العولمة والتأثيرات السلبية الناتجة عن التعامل مع آليات التقني.
الظاهر إذن، على أساس هذا الرصيد، أن الكتاب الجامعي المغربي في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية قد واكب التحولات الكبرى التي تفاعلت من خلالها الدولة بقطاعاتها المتعددة مع شرائح المجتمع. وكان الهدف من وراء ذلك على امتداد السنين هو خلق الوعي بما قد يجر البلاد إلى كوارث سيكون من الصعب التحكم في عواقبها. وهكذا يتبين أن الجامعة المغربية لا تُكون فقط من أجل تحصيل المعارف وإعداد الأطر، وإنما أيضا بهدف إعطاء المناعة الضرورية للمجتمع ومؤسساته كي يصمد إزاء مختلف الهزات ويتأقلم مع التغييرات الكبرى للعالم.
إن هذا ما تروم القيام به الجامعة الأورومتوسطية بفاس، رغم حداثة نشأتها وذلك سواء عبر التكوينات المتعددة التي تقدمها للطلبة، أو من خلال ‹›مركز التفكير›› الذي أحدثته مؤخرا من أجل تعميق البحث في القضايا المستعصية التي تهم المتوسط وأوروبا وأفريقيا. فلقد تمكن لها بالتالي إطلاق دينامية فعالة تجمع ما بين البحث والتكوين خدمة للابتكار كما يدل على ذلك المشروع الضخم الذي سينطلق إنجازه في مجال الصناعة المصنفة4.0. ما يؤكد رغبتها في شق طريق جديد يؤهل المغرب ومحيطه الجهوي لمواجهة ما سيعرفه المستقبل من إقبال على مهن جديدة وصيغ للإنتاج، يمتزج فيها تداخل الإنسان بمنصات الرقمي والتكنولوجي وآليات الذكاء الاصطناعي.
إن حرص الجامعة الأورومتوسطية على السير في هذا الاتجاه يزداد إصرارا لكونها جعلت من العلوم الإنسانية والاجتماعية سندا وركيزة له، وهو ما يبدو لنا اختيارا خصبا يُفرد للمعرفة مكانة خاصة في قلب الانشغالات حول كيفية تمكين الطلبة من ولوج مجالات التكنولوجيا والصناعة الحديثة.
في ضوء مثل هذا الاختيار يتبين لنا مدى عدم إجرائية القول – كما يردد كثيرا- بمفهوم نقل التكنولوجيا أو اعتبار أن الثقافة لا تجدي نفعا في إطار أي نموذج اقتصادي تنموي. فالتكنولوجيا لا تنقل بل يتم بناؤها من داخل البنيات المعرفية التي تؤسسها المؤسسات الجامعية. وذلك ليس على أساس الفصل بين قطب العلوم الدقيقة وقطب العلوم الإنسانية والاجتماعية، بل ضمن إطار ما يجمعهما على أساس خلفيات إبستمولوجية ومعارف مشتركة. إن التراكم المعرفي الذي حققه الكتاب الجامعي المغربي يفيد بأهمية هذا الاختيار، ما يحفز على الاستثمار فيه رغم ما قد يتطلبه ذلك من جهد سواء تعلق الأمر بالجامعات ‹› القديمة ‹› أو الحديثة العهد.

هوامش:

1- لذا أرى لزوما تهنئة وزارة التربية الوطنية، وبخاصة قطاع التعليم العالي، على هذه المبادرة. وكذلك توجيه الشكر للجنة المنظمة والاستشارية التي كرست جهدها من أجل إنجاحها.
2- تم تسجيل هذه المحاضرة على منصة جوجل يوم 22 أبريل 2021.
3- انظر على سبيل المثال دراستنا بالفرنسية ‹› المتوسط في ضوء مخيلته››، منشورات مجموعة الدراسات والبحث حول المتوسط، الدار البيضاء، 2019. ودراستنا المنشورة بالفرنسية على صفحات جريدة Libération ‹› نموذج جديد للتنمية موسوم بالأثر المتوسطي المغربي ماي 2020 ‹›.
4- لقد كان الفيلسوف نيتشه، كما نعلم، من بين الذين نادوا بضرورة التسلح بالفن كي لا يفقد الإنسان السيطرة على الحياة ويَهوى تحت هيمنة العلم.


الكاتب : عبد الرحمن طنكول

  

بتاريخ : 07/05/2021