بلعباس المشتري: قوة القناعة، وقوة الحقيقة

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

في تشييع جنازة الراحل بلعباس المشتري ذابت تفاصيل كثيرة في لحظة الحزن الكبرى. كل ما سيظل عالقا بالذاكرة هو الملامح الحزينة وتموجات الصوت الباكي، وبحة النشيج في حنجرة المناضل عبد السلام الباهي وهو يقرأ سيرته، على مسامع خاشعة .
اليساريون الحاضرون، من كل حدب صوب، كانوا يتداولون سيرته الكفاحية…وكنت منزويا، أتقاسم الوداع والتعازي، مع جيل بكامله، كل أخذته الحياة في مساراتها الرهيبة..حجرا أو نشيدا.
توقفت الجنازة، قليلا، والرفاق لا يودون التسليم باحترازات الاحتياط الوبائي، لأنهم كانوا يريدون أن يواصلوا معه إلى آخر.. التراب الذي أحبه.
للوداع ذكاء القلب الذي يتألم، والذاكرة التي تجمع العمر كله في لحظات،
ولا أحد يستطيع أن يفر من إغراء الحياة، في عز اللحظة الهاربة.
بلعباس المشترى الذي غادرنا بعد عمر عريض وقاس، هو أحد قادة المنظمة اليسارية، Œإلى الأمام˜، وهو أحد أربعة كانوا قادتها الكبار.
يعرف منهم الإعلاميون البسطاء
والمناضلون العاديون أبراهام السرفاتي..
في اسمه ذابت المنظمة وأجيالها..
تتناهى إلى أطراف الحديث الهامس.
كان هو القائد الفعلي للمنظمة، القائد الميداني، الذي ظل نشطا بعد اعتقال القيادة.
هو الذي استطاع الفرار لأربعة أشهر، بعد تاريخ اعتقال كل القادة وكل الأطر الوسطى والعليا والأطر العاملة..
وهذه الشرعية، التأسيسية والفكرية والميدانية، حمَّلته ثقلا آخر، ما كان لغيره أن يتحمله.
أولا، لما وصل إلى منصات التعذيب، لم يكن لدى البوليس المكلف بجسده، ما يطلبه منه.
فقد وصل الجميع إلى أروقة الجحيم، وأخذ كل مكانه في طوابق العذاب، وجمعت الدولة البوليسية الحقيقية، كل ما كانت تحتاجه من أدبيات..
فهل سيفلت بلعباس المشتري من التعذيب؟
أبدا. كان مفهوم الدولة القاهرة، يقتضي أن تنزل بكل كلكلها الرهيب على جسده النحيل، كان من تاريخية الدولة القاهرة أن ينال حظه، ولو بلا أسئلة، ولو بدون البحث عن أجوبة. المهم أن تمارس الدولة ساديتها القوية على رجل هرب منها لمدة..
الدولة عندما تنتقم من رجل أعزل في سراديبها، بدون حاجتها إلى الاعتراف، تريد فقط أن ينهار رجل عاندها..
بلعباس أيضا، دفعته شرعية وجوده وقياديته إلى أن يتولى ما لا أحد فكر فيه ربما أو فكر فيه ولم يرد الخوض فيه بسبب الاعتقال والسجن والرفاقية المتوجسة من رهاباتها الأمنية..
في الزمن الذي تعود فيه النزعات البطولية المتهافتة إلى الواجهة، يكون تأمل مساره درسا بليغا في الإنسانية والتواضع..
وفي الدهشة أيضا.
طفل سماه أبوه تيمنا بصوفي مغربي، يحفظ القرآن في سن مبكرة، استطاعت قوة ذاكرته أن تنقذه من امتحانات وسنوات الدراسة، هو الذي لم يكن يجيد الفرنسية استطاع أن يحفظ نصا بكامله عن طريق.. السماع بالتكرار، واجتياز الصراط الذي وضعه معلموه.
الفتى القرآني سيجاور أكبر تيارات الماركسية عمليا وميدانيا، ثم يصبح قياديا، ثم يصبح الشخص الذي استطاع أن يعيد النظر في طابوهات الحركة الماركسية في تجربتها المغربية الراديكالية والسرية، هذا الولد، نفذ من الجحيم، بسيرة حياة فريدة.
تسمع وأنت تودعه سيرته على ألسنة متعددة. القائد الوطني، يقول هذا، القائد الفعلي، يقول ذاك، ويذكر ثالث قصته مع عبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحيم برادة، وعمر بنجلون:
يوم قرر بوعبيد أن يخبر برادة المعتقلين وفيهم بلعباس وكمال والمنصوري بأنه مستعد للترافع، لكن وطنيته تجعل من القضية الوطنية مسألة خط أحمر، وقبل بلعباس ورافع بدوره بمواقف جعلت الآخرين من رفاقه لا يغفرون له تميزه وقوته وقدرته على النقد الذاتي، تلك الخصلة التي جعلتها اللينينية المناضلة أم الخصال وحولتها الممارسة إلى تهمة لا تعادلها تهمة…
ويروون في ذلك قصة مدام دانييل ميتران وتركيزها على من تستهويها مواقفه من الصحراء ،ضدا في الآخرين أمثال بلعباس وصحبه،القادرين على النقد الذاتي..
ومع عودة التياسر مجددا، تكتسي سرية هذا الفتى الباهظ النضال، مغزى آخر، وتجعل منه أستاذا في فهم التاريخ..
في الحياة ما بعد الجحيم المضاعف، الجحيم المنطقي والجحيم الآخر، الذي له أسبابه التي رواها هو نفسه، وأقنع بها آخرين انضموا إلى نباهته النضالية..
عندما غادر السجن، كان تفكه بأنه يريد أن يتدارك ما ضاع منه في الحياة وفي الأبناء وفي الدراسة…
وألح على نفسه بأن يضاعف مجهوده لكي يتمكن من ولوج كلية علوم التربية ويحرر نفسه من أي حاجة إلى الآخرين.
عفيفا
وناضجا
ومعتزا بنفسه..
لقد قادته الحياة، في ظروفه الصحية، إلى أن يلتقي بكبار رجالات الدولة
وتبادل أرقام الهواتف معهم، ومع ذلك، ظل ذلك الفتى الممعن في العفة والعفاف..
هذا الرجل المتميز لفت انتباه ملك البلاد، وكانت الالتفاتة الملكية لتولي العناية الصحية به..
بلعباس، الذي ظل صامتا، أتذكره، في اللحظات التي قدر لي أن ألتقيه، شاخص النظرات، صامتا، وحده بريق عينيه يدل على أنه يتابع الحديث حوله.
مثل لوحة تحمل شيفرتها في حركات العينين.
بلعباس الاستثنائي حقا.. في قوة قيادته للتنظيم السري، وفي قوة التعبير عن رأيه في مراجعات المواقف عندما يتبين نسبتها الخاطئة..
قوته في التقاط التحولات
وقوته في قول الحقيقة التي يقتنع بها.
رحم لله بلعباس في ملكوت النقاء..
لقد وقف الراحل في وجه آلة الدولة بقوة قناعته
ووقف في وجه آلة رفاقه الإديولوجية بقوة الحقيقة
وهو الآن يستريح في حرير الذاكرات المحبة والممتنة
بقوة المحبة وصلابة الإنسان الفريدة…

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 10/05/2021

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *