رسالة إلى مغاربة الداخل: هم ضيوف، فأكرموهم!

أحمد المديني

 

يأتون، من أقصى الأرض، من أعلى الكوكب، من شماله، شرقيِّه وغربي محيطاته، وهم يتدحرجون، يدفعون أجسادهم قدامهم، متكدسين بأولاد وبأحمال، اقتطعوا من لحمهم، من خَصاصهم، كي يوفروها على مبعدة شهور، للأب والأم، والإخوة، الأقارب وأولاد الدرب، أحيانا كل من هبّ ودبّ، ليس إلا ابتغاءَ الرّضا ويعودون صفر اليدين في القلب حزن ونصَب.
يأتون، تسبقهم أرواحُهم، قد أقلَعت أشواقُهم شهورا قبل أن يَحلّ أوانُ السفر، هو ضوءُ العام، الشمس والقمر، الفرح بهما يهِلّ، وشوفة الأهل سحابةٌ تفرج عن غربة طالت، تهطل كالمطر. عامٌ كامل، أحيانا أعوام، بسُهد الليالي وضنى العمر يحسبون الأيام، عيشهم حيث هم مبعدون، كـأنها ليس حياةً ما هم فيه، والذين هناك قليلا ما يتذكرون، يغبطونهم أحيانا بل يحسدون، هم عندهم غانمون، ماذا ينقُصهم؟ ممّ يشتكون؟ هكذا يبرطمون، يقتلون الروح؛ أفلا يشعرون؟!
يأتون خفافاً رغم ثقل الدهر، كاظمين الغيظ، عافين عن العُداة والبغاة والحاقدين بفيض. تحسبهم إذ تراهم قادمين قوافلَ أرواحٍ قد تخفّفوا من أجسادهم إلا ما يَسَع الحنين، قُبلة محفوظةٌ للأم على الجبين، وشعورٌ بين اللهفة والحرقة قبيل الوصول، بُعيد الرحيل، يا له مكتوم الأنين. يتسارّون مع أنفسهم طوال عام وبينهم يتكلمون، متى سنذهب، إننا غادون، كأنما الحياة في المهجر ليست إلا محطة عبور نحو غد وإلى بلدان كانوا فيها بالفقر والعوًز مغتربين وإليها ما انفكوا يعودون، حتى وهي لفظتهم، أسقطتهم من حساب المواليد، رقما صيّرتهم في توازن ميزان الأداءات لا أقلّ ولا أكثر، وأطرفُ من هذا وذاك تحتار كيف تسمّيهم، وهم لا يحفلون.
بلى، إنهم غاضبون وواجمون، في حقهم تسمع آذانُهم الأسماءَ والصّفات، ترى أعينهُم ما تركوا خلفهم ويزيد من آفات، ورغم بعُدهم يا ما تُنسب لهم من ويلات. هناك إداريون وراء مكاتب وأرائك مريحة بين حقبة وأخرى تجتهد عبقريتُهم فتحكّ مصباح علاء الدين ليخرج منها جنّي يُصنّف ويتبرّع بالأسماء: ذات عقد هم المغاربة المهاجرون، في حقبة هم المغاربة المقيمون في الخارج. اليوم يسمون ويوصفون بمغاربة العالم، بحكم انتشارهم في عديد أقطار. أما الجهابذة من لغويي وعلماء اجتماع الشارع فهم يَبتذلونهم ابتذالا يقلبون أنسابهم وهيئاتهم بين النعوت والوصمات، جاعلينهم مادة تندّر وصندوق نكات، بينا عيون كثيرٍ تأكلهم حسدا، ولا تعرف أو كيف تقدّر أن في نفوسهم كمدا، يحلّون بينهم شهرا ويغيبون عاما عندهم سرمدا.
لو عرف أؤلئك الموظفون في تلك الوزارات والمصالح، الظاهر منها والمتواري، متى وكيف ينبغي أن يمسحوا نظاراتهم جيدا ومن جديد وينزلوا من علياء هاوية، عساهم يبصرون أمامهم، وخلف الشاشات وبعد الأرقام وجداول الإحصاءات، بشرا، أناسا، مواطنين مختلفين، يعون من حقوقهم وكياناتهم ما هم يجهلون، ورغم أنهم تركوا الحدود خلفهم أو الحدود أخرجتهم مكرهين فهم بقوا بوطنهم يتشبثون، لا يملكون فيه إلا رصيد نسب وأحيانا بقعة تراب، أغلى الأماني أن تكون مثواهم الأخير؛ بينما الآخرون يرطنون بالأسماء والوصفات، ولا يفقهون من هؤلاء الناس، نعم هم مغاربة وكبُروا تغيروا وهم اليوم مختلفون، أي لم يبقوا كما كانوا يوم ذهبوا، وهذا طبيعي وبدَهي، وأنتم تصرون على تقييدهم بما لم يعودوا فيه، منكم من يملي عليهم شروط حياة وتعليم وثقافة وتقاليد وسلوك وملبس وسواه مما عند جلّهم تبدل، وعند كثير منكم تريدون جعله مجرد ديكور ورقم ينفخ صرة مكاتب الصرف، مغاربة العالم كما تسمونهم ليسوا فولكلورا ولا ضروع أبقار رغم أنهم يدرّون لكم أجود الحليب، لكنهم مختلفون.
مغاربة العالم ليسوا (موسما) مثل (مولاي عبد الله أمغار) ولا ينبغي تصنيفهم مثل الفنادق السياحية، وعدّهم بالكمّ، إنهم أفرادٌ لا أعداد، لكل فرد أنا وروح ومُهجة ثم وعيٌ ما يني يتشكل، بالطبع يصيب يخطئ، وأغلبهم يفلح، ويحب أن يظهر في الوطنين معا أنه إلى الأصل ينتسب، فيعود إلى حضن الوالدة وأعطاف الوالد، وحيثما حلّ يغدق، حتى ليعود بلا كساء، بعدها مراكز الاستقبال تغلِق، وتُطوى صحائف النكات والشماتة إلى موسم قادم، معها ينساه البيروقراطيون إلى حين، عندما يُصار إلى إعداد الميزانية ومراقبة المداخيل عملة أجنبية، في البلدة والدوّار أيضا يسمعون:» السي محمد عدّوا الدّوفيز!»، بينما السي محمد يقضي عاما كاملا هو وفطومة أو فاتي يتجرجر في الأنفاق والحقول والمعامل وسخام الأوراش، حارساً للعمارات، بائعاً في الأسواق، وكذلك مهندسا وأستاذا وفي المختبرات، عاطلاً، أيضا أطول، ومع كل خبزة وشريحة لحم ويوم عطلة وعيد يقتطع الأورو تلوه إما ليرسله إلى هناك، ولكي ينفق فوق الطاقة هناك، حتى العظم، ولن يصدق أحد العكس: « أَوْ، سي محمد جاب الدّوفيز!».
فيهم المحظوظون والناجحون، ومنهم ما شئت من التعساء والأشقياء، واهمٌ من يتصورهم سعداء، هم نصف، نصف، ويكابرون فقط، لا يملكون طاقة البوح، لذلك تغلي بين حناياهم براكين وإذا اشتد أوارها تدفقت حمما على الشفتين، وأحيانا أمراضا عضالا، ومنهم كثير يحيا الفصام بل يُفرض عليه، فهو هنا، هناك، وفي لا مكان، والشعور شتات، وقبضة ذكريات، من بدَد إلى بدَد، ويأتي قوم يتصدرون المجالس وبوجوه صفيقة يغطون الشاشات، وأيدٍ سمينة يمسكون الميكروفوانات ليتحدثوا ويفيضوا في شرح أحوال ما لا يعلمون، أو بوصاية يلفقون وحتى يزدرون وإما بافتئات، فالهجرة عند شعب قارب نجاة، وعند آخرين حرفة ريع وسبات، مجالس هي ومنابر ومؤسسات، مهاجرونا، مغاربة العالم الطلقاء غير معنيين بها، وتصرّ على ابتزاز أسمائهم، ولا تسمح بتمثيلهم على أي صعيد، لو شاءت سامتهم كالعبيد، بينما في مهاجرهم التي غدت لهم أوطانا، وهذا لا يستوعبه الوصاة، ينتخبون على هواهم ذا البأس الشديد. ورغم هذا الصداع وكل الأوجاع تراهم مغربهم لا ينكرون، اسألوا القناصلة عن طوابيرهم لتجديد أوراقهم الإدارية رغم أنهم يملكون جنسيات وبطائق ثبوتية حيث يقيمون (فيدفعون أضعاف مغاربة الداخل لقاء إثبات مواطنتهم الأصلية، أوه، كم تدرّ من مال سائل!)، هناك دائما عندهم هو الأصل، وتسمعهم يقولون(عندي كواغط فرنسا أو بلجيكا) ولا تسمع كلمة جنسية قط، وفي عام كوفيد 2020 وما تلاه امتُحنوا بقسوة في محبة ( لبلاد).
سيشرعون في التوافد على أرض الأجداد والآباء فأحبوهم، وأكرموا مثواهم، قابلوهم بالبشاشة وخذوهم بالحضن، وكفّوا الألسنة عن السّماجات، ثم أهمس في بعض الآذان، بين المغادرة والاستقبال، هؤلاء زوارٌ لا مهربون، لهم حق في التراب، في الحضور والغياب، لا هم ملائكة ولا شياطين، سعداء إذ يقبلون، وفي الإدبار كم تعساء، هذا نداء شخصي مني لا غير.

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 16/06/2021

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *