الصوفي المتفلسف الدكتور أحمد الصادقي يغادرنا في صمت

غادرنا الدكتور أحمد الصادقي صباح أول أمس الأحد بعد مرض لم ينفع معه علاج.

اشتغل المرحوم قيد حياته، أستاذا للفلسفة بثانوية ولادة بالدار البيضاء ثم  عبد الكريم الخطابي بالمحمدية ثم كأستاذ باحث في مجال الفلسفة والتصوف بكل من دار الحديث الحسنية بالرباط وجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء .

ويمتازالدكتور الصادقي بعلاقاته الإنسانية مع الجميع ودماثة الأخلاق وأناقة السلوك،  إذ بفقدانه فقدت الجامعة المغربية رجلا كرس عمره للعلوم الإنسانية بصفة عامة، وللفلسفة بصفة أخص، وذلك من خلال مهنته التي كان يحبها ألا وهي التربية والتكوين والتعليم والبحث العلمي والمشاركة في الندوات الفكرية.

وفي شهادة للشاعر صلاح بوسريف في حق الفقيد اختار له عنوان: ” الصوفي المتفلسف” جاء فيها :

“كان لقائي الأول بأحمد الصادقي خلافيا، في ندوة حول الفلسفة، ربما، هو ظن، أن الشاعر حين يتحدث عن الفلسفة، يتدخل في ما لا يعنيه. استشعرت هذا، من خلال تعقيبه على تدخلي، فاضطررت لمقاطعته، وشرعت في جره، ومعه، من كانوا ضمن هذه الندوة إلى العلاقة بين الشعر والفلسفة، وما تعلمته الفلسفة من الشعر، أو ما أتاحه الشعر للفلسفة مع الأيونيين، فلاسفة ما قبل سقراط، وبينهم كزينوفان الذي عبر عن حدوسه الفلسفية بالشعر.

كثيرون ممن يدعون الشعر، يظنون أن الفلسفة سابقة على الشعر، في حين أن الواقع والنصوص والكتابات تقول غير هذا، وخصوصا الملاحم الأولى، وبينها ملحمة جلجامش، التي كانت أول سؤال فلسفي حول الوجود والعدم. وهؤلاء، هم أشخاص، شعرهم غارق في الماضوية، وفي فدلكات اللغة التي تعفنت كثير من تعبيراتها، وأسن ماؤها.

أتاح لنا هذا الخلاف والنقاش المعرفي الجمالي، أن نعقد صداقة معرفة، سيعمقها التصوف، الذي كان بين أكبر اهتمامات الراحل، وقد ترجم أعمالا مهمة، خصوصا لابن عربي، سأستفيد منها في ما بعد، وهي ضمن عمل يشغلني منذ سنوات.

أحمد الصادقي، لم يحظ بما يستحقه من اهتمام، لأنه كان عازفا عن هذا الاهتمام، وكان شغله الشاغل هو الترجمة والتأليف، موزعا بين الفلسفة والتصوف، لأن الخيط الرابط بينهما هو خيط شفاف، لمن يدرك التصوف، باعتباره فكرا، وطريقة في التأسيس للوجود بالجمال والجلال، لا التصوف، باعتباره طريقة في العبادة والتجرد من الحياة، والزهد فيها.

حين كنا بصدد مناقشة كتاب “الوجود والزمن” لهايدغر، في ترجمته التي أنجزها فتحي المسكيني، فاجأني أحمد الصادقي، بأنه ترجم هذا العمل، وكان بصدد نشره، قبل ظهور عمل فتحي المسكيني. لا أعرف مصير هذا العمل، لكن الأكيد، في هذا السياق، هو أن الراحل، كان منفتحا على السؤال، وعلى قلق المعرفة، وشغف البحث، ولم يكن يلتفت إلى شيء آخر، مما بات يغري الكثيرين، لأن الصادقي، كان، بالقدر الذي يحب به المعرفة، يحب أيضا الحياة، ويميل إلى متعها.

كان يدرس الفلسفة بكلية للآداب بابن مسيك، وكان يدرس أيضا بمدرسة الحديث الحسنية بالرباط  آخر لقاء لنا، كان بمحطة المحمدية، وهو في الطريق إلى مدرسة الحديث، لإجراء امتحانات نهاية السنة، من السنة الماضية. وكان بدا عليه كثير من التعب والعياء الشديدين. انشغلنا بالحديث  عن ابن عربي، الذي كان مشتركنا في البحث والقراءة، لأن ابن عربي يشغلني شعريا، ويشغلني في طاقته التخييلية الخلاقة التي استوضحت فيها الراحل، فأفادني في بعض ما كان غامضا عندي، أو ما كان مستغلقا علي في الفهم، لأن ابن عربي ليس ممكنا بما نظنه، فهو مجرة لوحده، في هذا الباب.

الرجل كان جد متواضع، دمث الأخلاق، لا يكن حقدا ولا ضغينة، ولا يتكلم بسوء عن أحد، كان منزويا داخل عمله، مسؤولا، لا يعبث بمصائر الطلبة، ويحرص على وضعهم في سياق البحث الأكاديمي، بما يقتضيه من ضبط للتصورات والمفاهيم، ولمناهج القراءة والبحث والكتابة.

لا بد أن نعمل على استعادة الرجل، في فكره، في انشغالاته، في أعماله، في أسئلته وقضاياه التي ظل مخلصا لها، إلى أن فاضت روحه، وسقط منه الجسد، رغم ما كان في نفسه من حب للوجود، نكاية في صلف العدم الذي بات وشيكا منا، بلا مبرر”.

الأستاذ الجامعي عبد اللطيف محفوظ نعى صديقه قائلا: “تلقيت ببالغ الحزن والأسى، قبل دقائق، نعي صديقي وزميلي المفكر الاستاذ الدكتور أحمد الصادقي. كان رحمه الله أحد أهم الباحثين في مجال التصوف والفلسفة والفكر بصفة عامة. ونال جوائز وطنية وعربية عن كتب خالدة. تعازي الحارة لزوجته وأبنائه وزملائه بدار الحديث الحسنية وشعبتي الفلسفة والأدب ببنمسيك ولكل أعضاء مختبر السيميائيات وتحليل الخطابات الفنية والأدبية” .

وفي نعي الدكتور الصادقي كتب الاستاذ الجامعي عبد النبي حمروش في الموقع التواصل الاجتماعي “فايسبوك” : “رحل عنا، إلى رحمة الله الواسعة، صديقنا الأستاذ أحمد الصادقي. وإن ظللت أتجنب نشر أخبار النعي، إلا أن فقدان صديق بحسن إنساني رفيع، وباحث من الطراز العالي، أخرجني عن طوع تحفظي.

لقد ملأالاستاذ أحمد يومياتنا، نحن أصدقاءه وزملاءه بالمحمدية، حكمة ومرحا وحبورا. فعلاوة على علمه الغزير، الذي ظل عونا لنا في حل بعض مشاكلنا المعرفية، كان المرحوم قمة في الهدوء، الطيبة وسعة الخاطر. وإلى كل ذلك، تميز بالإقبال على الحياة، الذي كانت عدواه تنتقل إلينا بشكل مباشر وتلقائي.

قضينا معه سنوات في المحمدية، نجوب ضواحيها وأحوازها، إلى أن انتقل إلى مدينة بوزنيقة، بعد اشتداد وطأة المرض عليه. وقبل عدة أشهر قليلة، من انتقاله ذاك، ثم رحيله الى الدار الأبدية، كنا قد زرناه في بيته الجديد (أنا والاستاذان احمد توبة وعبد اللطيف محفوظ). لم نلحظ أي تغير في شخصه، المعروف بروحه المرحة الخفيفة، لولا المرض الذي كان قد نال من عوده.

قبل نهاية اللقاء الأخير به، ذكرته بالكتاب الذي كان قد أعارني إياه “الحقيقة والمنهج”، فطلب مني الاحتفاظ به، بالنظر الى الوضع الصحي المتفاقم الذي كان عليه.

لقد أصدر الصادقي عدة كتب، منها اثنان بأهمية كبيرة في نظري: الأول تأليف “إشكالية العقل والوجود في فكر ابن عربي، بحث في فينومينولوجيا الغياب”، والثاني ترجمة: “ابن عربي، سيرته وفكره” للباحثة كلود عداس.

وبهذه المناسبة الأليمة، نتقدم في هيئة التحريرجريدة ” الاتحاد الاشتراكي ”  بأصدق عبارات المواسات وأحر التعازي إلى كل من زوجته الكريمة، وبناته وأبنائه، وباقي افراد العائلة،  راجين من العلي القدير أن يرزقهم الصبر على فقدانه.

رحمك الله أستاذنا وصديقنا الغالي..

 


الكاتب : مصطفى الإدريسي

  

بتاريخ : 17/08/2021