حول شعبية الفيلم الوثائقي

القليل من المبدعين والعشاق، من كان يتوقع فعلا، ما من الممكن أن يحققه الفيلم الوثائقي، من شعبية مزدهرة في ظل عولمة موحشة ومخيفة.
لازلت أتذكر، ذلك السؤال المدوي الذي طرحته علي مسؤولة معينة (بالرباط) حينما قرأت خبر تأسيس مهرجان دولي للفيلم الوثائقي سنة 2008 بمدينة خريبكة، حيث قالت لي : «واش غادي يكون مهرجان ديال داك شيديال الحيوانات؟». صعب علي الرد، وتقديم جواب دقيق لمسؤولة اعتادت تدبير ملفات اجتماعية، هي في حد ذاتها موضوعات/قصص جميلة للفيلم الوثائقي. احترمت المقام، وقلت لها، إن «داك شيديال الحيوانات»، هو جزء من هذه الأفلام الوثائقية، وحسب المراد من هذه الأفلام الوثائقية مع ضرورة التمييز بين ما يعد للتلفزيون وما يعد للسينما وطبيعة الجمهور، الخ.
لن أنكر أن الفكرة أعجبتها، ووعدتني بالتشجيع والدعم، الخ، مرت سنوات ولم نتلق دعما منها، بل لم أعد أعرف أين ذهبت هذه المسؤولة، وتبخرت وعودها كعادة العديد من وعود أهل السياسة، لاسيما حينما يجدون أنفسهم أمام من لا يحب غير الثقافة وله مسافة بعيدة من السياسة.
يعدونه بالتعاون والدعم ومن موقع «الصدقة/الشفقة» وهم في قرارة أنفسهم صادقون في اللادعم (العروي يذكرنا في مؤلفاته بكون السياسي يخاف من المؤرخ، لأنه يذكره بالماضي).
لنتذكر أن الفيلم الوثائقي في بعد من أبعاده يؤرخ (ومن زاوية ما) لما مضى وبأشكال بصرية وفنية وجمالية عديدة.طبعا، وإن وجدت سياسيا، مؤمنا بالثقافة، فاعلم أنه عاشق حقيقي للثقافة، وقد رمت به أقدار ما للسياسة (لا نعمم طبعا لأن التعميم قاتل).
عالم اليوم، عالم صعب ومعقد.
وكلما تم دفع الإنسانية نحو الحروب، والمسخ الاقتصادي والاعلامي، الخ، تولدت الرغبة لدينا في مشاهدة ما يذكرنا بمحليتنا، وبقصصنا الاجتماعية، والثقافية الشعبية، وقضايانا العميقة التي تربطنا بهذه الحياة.
الفيلم الوثائقي، ومنذ ظهوره، أعتبره بمثابة صوت خفي/ ظاهر، يخلخل كل الساكن فينا ليذكرنا بجوانب وجدانية جميلة تسكننا.
نفس الكلام قد ينطبق على قصيدة شعر جميلة أو رواية فيها هذا الحس الإنساني، أو مسرحية حبكت كتابتها إخراجها، أو لوحة تشكيلية تنهض على بوح إنساني جميل، الخ.
نعم، إن الفنون تتعايش وتتداخل وتتساكن فيما بينها. الرأسمالية المتوحشة هي من كان خلف الفرز بينها، وبناء حدود إسمنتية بينها أيضا، لتسهيل التخصص وفق ما يوجد في مصنع للسيارات أو مصنع للأحذية، الخ، بل لقد تم «تبضيعها» و«تعليبها» وبيعها وفق منطق الربح، كما هو الحال في المصانع المعلبة لسلعها.
أتذكر جيدا ما قاله الناقد الفرنسي جون إيف تاديي في مؤلفه «القصة الشعرية» الذي نادى بضرورة أن يكون الناقد «إرهابيا» أي كمدمر للحدود الفاصلة بين الأجناس والفنون والمعارف ككل.
العديد من المدارس والجمعيات والجامعات والمؤسسات العمومية والخاصة، بل حتى المهرجانات السينمائية التي كانت متخصصة فقط في الفيلم الروائي، بدأت مؤخرا تقترب من الفيلم الوثائقي. الكل اليوم، يدرك قيمة الفيلم الوثائقي.
الكل يرغب فيه ويبحث في كيفية دمجه في اهتماماته. ليس هنا المجال، لطرح أسئلة عديدة عن تاريخه وبداياته «المحتشمة» بل وكيف كان باعة التذاكر في القاعات السينمائية، يحذفون كلمة «الوثائقي» ويتركون فقط كلمة فيلم، لبيع أكبر عدد من التذاكر، قائلين للزبناء، إنه فيلم جميل فقط، لاسيما وقد اعتاد الناس القدوم لمشاهدة أفلام روائية وليس وثائقية.
ظهر بشكل «محتشم»، وهو اليوم يتوسع، ويرفع رأسه ويجلب إليه فئات عديدة من المجتمع. هو اليوم، نقطة التقاء الجميع.
الكل يقر بأهميته وشعبيته، في زمن هيمنة التكنولوجيا على الرقاب وقلة القراءة، بلوحتى في ظل هذه الأوضاع، تزداد الرغبة على الوثائقي.
العديد من الجامعات وعلى امتداد هذا العالم تخصصت فيه وبدأت تستقطب العديد من الطلبة ومن مرجعيات متعددة (آداب وعلوم، الخ).
في المغرب، تمكنت كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، ومن خلال ماستر الدراسات الفيلمية الوثائقية المتخصص ( المتخصص الوحيد في المغرب)، أن تحقق العديد من المكتسبات العلمية والمهنية لفائدة طلبتها والباحثين الذين يحزمون أمتعتهم ويشدون الرحال نحو المدينة الجميلة تطوان، بحثا عن أغراضهم العلمية.
طبعا، دون نسيان العديد من الأعمال العلمية (أطاريح جامعية ذات الصلة بالسينما ككل)، وبكليات أدبية مغربية عديدة، كمراكش وبني ملال والدار البيضاء وورزازات والرباط وفاس، الخ.
تتوسع اليوم الدائرة، لتنفتح شعب عديدة على هذا الشكل التعبير والجمالي والبصري والقصصي والإنساني، والمفيد للطلبة، لاسيما على مستوى التربية البصرية والجمالية (أمية لازالت مهيمنة في عالمنا العربي في ظل هيمنة «ديكتاتورية» بيداغوجية للتعلم الحرفي (من الحرف)).
أدركت التلفزيونات، أن مرورها الإنساني، نحو المتلقي الإنساني، من الممكن أن يتحقق عبر الفيلم الوثائقي.
بدأت تنسج العديد من القصص الجميلة بين التلفزيونات العربية والعربي، وقضايا عالمية عديدة، من خلال الحكي بالفيلم الوثائقي.
لا أحد يمكن له أن يغفل دور قناة الجزيرة الوثائقية في حرثها لأرض عربية كانت «بورية» وأرجعتها صالحة للزراعة الوثائقية، وقد نبتت فواكه مثمرة عديدة. قنوات عربية أخرى غير متخصصة في الوثائقي، بدأت بدورها تؤمن بقيمة هذا الحرث الفيلمي الوثائقي. أذكر قناة الرابعة والقناة الأولى والقناة الثانية «قصص إنسانية»، الخ، في المغرب، كمثال فقط.
ويمكن تتبع مسارات تلفزيونية عربية وغير عربية، من خلال قراءة في طبيعة تحولها، نحو الفيلم الوثائقي، لما له من قيمة بصرية وجمالية وثقافية وتربوية، أدركت قيمتها، كلما اجتمع من يدير أمورها. هنا، لابد من التذكير، أن الآخر (الغرب)، قد راكم العديد من التجارب في هذا المجال، لكون مستوى الوعي بقيمة الوثائقي، ربما كان حاضرا، منذ أن عرض الأخوان لوميير تجربتهما الأولى بباريس.
عديدة هي المكاسب المحققة، والتي من الممكن الاعتزاز بها، من لدن كل من آمن بفكرة الفيلم الوثائقي ومنذ بداياته الأولى في فرنسا، ومرورا بدول عديدة، ساهمت في ولادة وتقوية الولادة الخاصة بهذا الفيلم الوثائقي.
أطاريح جامعية مهمة أنجزت في المجال، وعليها أن تخرج للوجود، أي للنشر، لما تتميز به من دقة في البحث. اعتبارات علمية عديدة حققت، ولازال الطريق مفتوحا أمام الطلبة الباحثين الشباب، للكشف عن قيمة وأهمية وجماليات وإنسانيات الفيلم الوثائقي، ومن زوايا عديدة، بل إن العديد من هذه الزوايا، لازال بكرا وينتظر البحث فيه. حينما أسسنا المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي بخريبكة، كنا نبادر إلى طرح فكرة خلق شراكات بين المهرجان وبعض المؤسسات التربوية والجامعية وغيرهما.
كان البعض يتحمس، والبعض الآخر يرى في الفكرة، مجرد«تضييع» الوقت للطلبة. اليوم، حينما أفتح بريد المهرجان، أتفاجأ برغبة العديد من المؤسسات العلمية في هذه الشراكة والرغبة في تدريس الوثائقي، الخ. رغبة، من الصعب على مهرجان تديره جمعية صغيرة، وبإمكانيات بسيطة، أن تلبي كل هذه الحاجيات، مما جعلنا نفكر في تقوية هذا المهرجان ومحاولة تحويله إلى مؤسسة، لكي ننخرط في كل الأسئلة المطروحة حول الوثائقي وما ينتظره من مستقبل جميل.
بل قرارات نوعية هي في انتظار هذا المهرجان.
لي كامل اليقين، وبحكم تجربة متواضعة راكمتها فيه (أبحث فيه وأشرف على العديد من البحوث المنتمية إليه وأشارك في الوقت نفسه في لجن مناقشة للعديد من الأطاريح الجامعية ذات الصلة المباشرة به وبغيره، الخ)، أن العديد من هموم ومشاكل الدرس داخل القاعة، حلولها في الفيلم الوثائقي.
نسقت العديد من فرق البحث العلمي في مجال الصورة، وكتبت وألفت بعض المؤلفات في نفس الموضوع، وساهمت في العديد من المؤلفات الجماعية العلمية المرتبطة به، ويوميا أزداد قناعة راسخة، وفي ظل هذه العولمة المتوحشة والمتعطشة للحروب ودم الإنسانية، أن الفيلم الوثائقي، هو المستقبل البصري والثقافي والجمالي، الخ، للإنسانية.
جدار فني من الممكن أن يقيه، من هبل هذا العالم وعولمته التي يديرها، رأسمال عسكري مرعب ومخيف ومخلخل لما تبقى فينا من بعد إنساني نقي به وفيه، عمقنا، الذي تكشف عنه الأفلام الوثائقية الجميلة.
كلما أحببناه وتقربنا إليه و«تلبسنا» به ليل نهار، وبحثنا عنه، شاعت رائحته الجميلة فينا، بل من الممكن أن نشمها وندركها «ذوقها» و»لذتها»، ومنذ الدقائق الأولى. رائحة تمارس «سلطتها» علينا وتجعلنا نحب ما نشاهد بل ونتمايل داخليا بفضل تلك «القشعريرة» التي تصيبنا في العمق.
بناء على كل التفاصيل القليلة الواردة سالفا، من الممكن الحسم في فكرة شعبية الفيلم الوثائقي، والتي هي دوما في ارتفاع. دراسات عديدة تنشر بين الفينة والأخرى، تؤكد قيمة الفيلم الوثائقي ورغبة فئات مهنية وعمرية مختلفة، في مشاهدته سواء أكان ذلك في برامج التلفزيون أم على مستوى ما تمنحه الوسائط الرقمية البصرية الجديدة. فهل من الممكن الرهان عليه أكثر لكي (من الكي) عولمة هذا العالم المخيفة؟.


الكاتب : د.الحبيب ناصري

  

بتاريخ : 21/03/2022