الفطام الطاقي الأوروبي عن روسيا..

انتقام غير مباشر لبوتين من أوروبا؟

 

كتبت مجموعة من المنابر الإعلامية العالمية، على غرار «واشنطن بوست» و «بلومبرغ» أن ضعف «اليورو» أمام منافسه الدولار سرعان ما سيتحول ل»مشكلة للبنك المركزي الأوروبي»، حيث سيدفعه «انحدار العملة الأوروبية الموحدة» إلى ما دون مستوى التعادل مع الدولار إلى ما لا تحمد عقباه للأوروبيين.
ورغم أن هذه العتبة قد تكون مجرد رقم، إلا أنها بلا شك ذات رمزية اقتصادية واضحة، بيد أن «انهيار العملة الأوروبية سيؤثر على مستوى الثقة في منطقة اليورو»، ناهيك عن القلق بشأن «التوقعات الاقتصادية لأوروبا بقدر دوافع المستثمرين الراغبين في الانتقال صوب الدولار كملاذ آمن لهم»، وستحيل كل تلك الأسباب البنك المركزي الأوروبي للرد بزيادة أكبر من المخطط لها في أسعار الفائدة في وقت لاحق من هذا الشهر، زيادة مشكوك في أثرها على قيمة اليورو، وعلى الدفع باقتصادات دول كبرى (ألمانيا كمثال أساسي في المقال) صوب الأمام، والتي سيكون عليها مواجهة انخفاض اليورو والحرارة في فصل الشتاء على حد سواء.

 

قبل كل شيء.. لماذا يسقط اليورو أمام الدولار؟

إن الخطر الواضح والحالي المتمثل في «قطع روسيا لإمدادات الطاقة» و»الاضطرابات الاقتصادية»، التي قد تنجم عن ذلك، والتي من شأنها أن «تغلق أو تحطم الصناعة» في دول أوروبية عدة (لاسيما ألمانيا المربوطة بروسيا عبر خط نورد ستريم 1)، وتدفعها إلى تقنين استهلاك الطاقة على نطاق واسع، تؤدي إلى نزوح المستثمرين بعيدا عن العملة الأوروبية الموحدة. يعتقد «كيت جوكس»، كبير محللي العملات في «سوسيتيه جنرال» أن : «اليورو غير القابل للشراء، من غير المستبعد إمكانية انخفاضه إلى 90 سنتا مقابل الدولار في المستقبل». إلا أنه وعلى النقيض مما حدث خلال العقد الماضي، فإن ضعف اليورو هذه المرة من شأنه أن يضر بالاقتصاد الأوروبي ككل. إذ، وبدلا من النوبة الحالية من انخفاض أسعار العملات التي تنتج طفرة في الصادرات، سنرى دول الاتحاد الأوروبي تقع في فخ الزيادة في التضخم (الدول الأعضاء كلها على متن نفس السفينة).
من بين ما سبب هذا السقوط «المدوي» للعملة الأوروبية أيضا، كان مزيجا من عوامل إقليمية أبرزها «الحرب الروسية – الأوكرانية». حيث أدى الصراع بين الدولتين إلى «قلب الإمدادات الغذائية» رأسا على عقب، وإلى «ارتفاع أسعار الطاقة في جميع أنحاء العالم»، مما أثر بشكل خاص على الاتحاد الأوروبي، الذي تعتمد مجموعة من بلدانه بشكل كبير على «واردات الوقود الأحفوري الروسية» بأنواعها. ما أدى بالاتحاد الأوروبي، وكجزء من حملة ضغط ضد جارته الشرقية ل»فطام» نفسه عن الطاقة المستوردة من روسيا، تزامنا مع خفض موسكو بشكل حاد لتدفقات الغاز صوبها، لينتج عنه زيادة في التكاليف المادية على الأوروبيين الذين يعانون بالفعل من تبعات الجائحة الوبائية الاقتصادية.
في الولايات المتحدة، واصل «الاحتياطي الفيدرالي» رفع أسعار الفائدة بقوة، ودفع العائدات على سندات الخزانة إلى القمة، وجعل الدولار أكثر جاذبية للمستثمرين من اليورو عبر رفع أسعار الفائدة 3 مرات في عام 2022، مشيرا إلى «أن لديه أربع زيادات أخرى مخطط لها كجزء من استراتيجيته للسيطرة على التضخم»، وجاعلا من الدولار ملاذا آمنا ومعززا من شهرته وسط المستثمرين في «ساحة ممارسة اقتصادية غير واضحة المعالم سواء في أوروبا أو أماكن أخرى»، على غرار ما كتبه كبير الاقتصاديين في «RSM»، «جو بروسويلاس» في أواخر أبريل مع اكتساب الدولار قيمة أعلى، قائلا : «نتوقع أن يستمر الدولار في الاستفادة من وضعه الحالي كملاذ آمن للمستثمرين الدوليين والمصالح التجارية، خاصة وبالنظر إلى الوضع الأكثر خطورة والحالي للاقتصاد الأوروبي».

ما الذي يعنيه «تكافؤ» أو «تعادل» قيمة اليورو مع الدولار في الأساس؟ وماذا يمثل بالنسبة لرجال الأعمال والمستهلكين والمهاجرين على حد سواء؟ وهل سيستمر سقوط اليورو أمام الدولار لوقت أطول؟

بالرغم من المخاوف السائدة اقتصاديا، وصف بعض المحللين التعادل بين اليورو والدولار بأنه «لن يكون بالضرورة نقطة تحول للعملة، التي كانت بالفعل بعيدة عن ذروتها في عام 2008 بما يقرب من 1.60 دولار».
ومع ذلك، «يتوقع أن أوروبا لن تفلت بعد الآن من تطمينات «السوق الناعمة» و»الإجراءات المتواضعة»، وبالتالي فإن الضغط على العملة الموحدة قد يستمر في المستقبل القريب»، حسبما قال «أليكس كوبتسيكيفيتش» كبير محللي السوق في شركة «FxPro» لتداول العملات الأجنبية. مشيرا أيضا إلى أن : «البنوك المركزية وصانعي السياسات في القارة «سيضطرون إلى الاستجابة» لمخاوف انخفاض قيمة العملة. ومن الواضح أن التأثير النفسي على المستثمرين سيصل إلى حد «التركيز التام» على السوق والتدفقات والسيولة فيه، وفقا لتحليلات المسؤولين الاقتصاديين الألمان، الذين وصفوا هذه الحالة الحالية ب»الخطرة» كثيرا بسبب غياب التكافؤ.
في نفس السياق، يمكن أن يكون لتحويل العملات العالمية تأثير عميق على الشركات التي تبيع منتجاتها في الخارج أو تعتمد على المواد الخام الأجنبية لصنعها، كما يمكن أن تلعب دورا في رفع أسعار السلع (مثل الحبوب) التي يستهلكها الجميع. وقد تجد الشركات الأوروبية التي تبيع بضاعتها في الخارج، أن «العملة الأضعف» تجعل صادراتها أكثر جاذبية، لأن عملة المشتري ستكون أكثر قيمة بالمقارنة. لكن، أي مكاسب للصادرات يمكن أن يقابلها ارتفاع التضخم في الدول ال 19 التي تستخدم اليورو، مما يعني أن «أي سلع مستوردة أو مواد خام ستصبح أكثر تكلفة»، ويمكن أن يؤدي تغير أسعار الصرف إلى خلق رابحين وخاسرين اعتمادا على مزيج الواردات والصادرات.
سيصبح الأمر أكثر تكلفة بالنسبة للأوروبيين والأشخاص الذين يكسبون أجورهم باليورو، والراغبين في السفر والتجوال في الخارج على حد سواء والمعتمدين على نفقاتهم بالدولار الأمريكي. فبالنسبة للأمريكيين الذين يرون أوروبا ك»وجهة سفر وسياحة شهيرة»، فإنهم وبنسبة 1 إلى 1 تقريبا سيعانون مع تحويل العملات من وإلى الدولار، غير أنهم سيحصلون على قوة إنفاق أكبر عند زيارة وجهات منطقة اليورو مثل : «فرنسا» و «ألمانيا» و»إسبانيا» و»إيطاليا» و»اليونان»، ويمكن أن تفيدهم حركة الدولار مقابل العملات الأخرى خارج منطقة اليورو أيضا، مع ارتفاع الدولار الأمريكي مقابل «البيزو المكسيكي» و «الدولار الكندي» و «الدولار الأسترالي» و»الريال البرازيلي» و المفاجئة «الروبل الروسي».. خلال الشهر الماضي.
يؤكد بعض المحللين الاقتصاديين أن النوايا الأوروبية تسعى لمعادلة سعر اليورو بما يقرب من 0.95 دولار. ويضيفون أيضا، أنه وإلى حين أن تبرز توقعات اقتصادية إيجابية أكثر، ستظل العملة الأوروبية في حالة ركود حتى لو رفع البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة، ضدا في الاحتياطي الفيدرالي ورفعه لأسعار الفائدة وجذبه الأموال إلى الولايات المتحدة. وقد يتضرر اليورو أيضا من مخاطر التفتت، حيث ترتفع «تكاليف الاقتراض» في الدول الأضعف بأكثر من نظيراتها الأكثر ثراء. أحد العوامل المواتية لليورو حاليا، يكمن في أن «تداول وبيع العملة» تجارة شائعة في أسواق العملات في الوقت الحالي قد تمنع اليورو من الانخفاض الحاد، من خلال انتشاره في أسواق العملات الدولية.

ما علاقة كل هذا بروسيا وألمانيا وخط نورد ستريم 1؟

من جهة أخرى، لا يمكن اعتبار قوة الدولار العامل الوحيد وراء تدهور سعر صرف اليورو، بل ينضاف إليها مشاكل متراكمة ومتعددة من قبيل «ما بعد جائحة كورونا» التي لا تزال أوروبا تتخبط فيها، مرورا ب»الحرب الروسية – الأوكرانية» المفاجئة ووصولا إلى «أزمة الطاقة التي تهدد استقرار القارة» ككل، آخر موجاتها كان يوم 11 من يونيو المنصرم، حيث قرر الروس وقف ضخ الغاز عبر خط «نورد ستريم 1» (ينقل الغاز من روسيا صوب ألمانيا وتابع لشركة «نورد ستريم» التي تستحوذ شركة الغاز الروسية الحكومية «غازبروم»على معظم أسهمها) لأسباب تتعلق بالصيانة، على أن لا تزيد مدة الصيانة عن 10 أيام ويتم إعادة تشغيله في 21 يوليوز 2022.
يتمثل خوف الأوروبيين، وخاصة الألمان منهم من «قرارات الرئيس بوتين غير المتوقعة»، متوقعين منه إيقاف عمل خط نقل الغاز الشهير بشكل إما «كلي أو جزئي»، لكون إعادة صيانة الخط تعتمد على صيانة وتصليح أحد التوربينات الأساسية لتشغيله (تتم هذه العملية في كندا).. وأن عدم إصلاح الخط أو التوربين الأول من قبل الكنديين، سيؤدي لا محالة إلى استمرار إغلاق الخط إلى حين عودة التوربين مصلحا (يخص محطة ضغط الغاز الروسية «بورتوفايا» المسؤولة عن ضخه لأوروبا). هنا استغل الرئيس الأوكراني «زيلينسكي» الموقف، واتصل برئيس الوزراء الكندي «جاستين ترودو» وقال له : «لن نسامحكم إن أعدتم التوربين للروس! .. لأنكم وبفعلتكم هذه ستنتهكون العقوبات المفروضة على روسيا»، تصريح يراه الألمان «لا يساوي شيئا» لكونهم الوحيدين الذين سيتحملون عواقب إيقاف خط نقل الغاز عن العمل.
يرى الألمان، باعتبارهم الطرف المتضرر ب»شدة» في هذه المسألة، أن إيقاف نقل الغاز عبر الخط الروسي يعتبر مثل وضع «ما يضرب ما بين المطرقة والسندان»، وهذا واضح من خلال الاتصالات التي أقامها وزير الاقتصاد الألماني «روبرت هابيك» مع المسؤولين الكنديين، مؤكدا فيها على : «ضرورة عودة التوربين مصلحا ومصانا إليهم بأسرع وقت ممكن»، وهذا ما قام به الكنديون في 17 من يوليوز عبر نقله بالطائرة بدلا من الباخرة صوب ألمانيا، ثم من «ألمانيا» برا إلى «فنلندا» وصولا إلى المحطة الروسية. هذا، دون أن نغفل عن التوربين الثاني الذي تتكفل به شركة «سيمينس» الألمانية قيد التصليح لحد وقت كتابة المقال.
تكمن مخاوف ألمانيا أيضا، في عدم قدرتها على توفير قرابة 30% من استهلاكها من الغاز الذي اعتادت على استقدامه من روسيا، وهي نسبة يحتاج إليها القطاع الصناعي الألماني على وجه التحديد، وبغيابها سيكون على الأخير أن يقاوم الانهيار اللاحق به (دون مبالغة). من هنا، ستعيش الحكومة الألمانية «فصل شتاء صعب»، وستتخبط في معضلة اقتصادية واجتماعية خطيرة تلمس توازنها الداخلي، وهي : «هل تقوم بضخ الغاز للمواطنين وتدفئهم على حساب القدرة التصنيعية الألمانية؟ أم تعكس الضخ لصالح القطاع الصناعي وتترك شعبها يواجه صعوبة فصل الشتاء القاسي في ألمانيا؟»، كما يشمل هذا التساؤل كذلك دولا أوروبية أخرى على غرار «النمسا» و «إيطاليا» و»جمهورية التشيك»، المستوردة للغاز عبر خط نورد ستريم 1.

عامل الخوف يبعد المستثمرين الدوليين عن أوروبا !

في النهاية، يلعب عامل الخوف من مستقبل أوروبا الاقتصادي خاصة، دور الأدرينالين لدى المستثمرين الأوروبيين أو الدوليين المتخوفين من حالة التكتل الأوروبي مستقبلا، وينعكس حاليا على رغبتهم في النزوح والابتعاد عن «الأصول المقومة باليورو» مع كسل البنك المركزي الأوروبي في «إنقاذ العملة الأوروبية الموحدة»، ناهيك أن الإقبال على الدولار وتفادي التوجه إلى اليورو ساهم في انخفاض مستوى سعرها إلى درجة لم نقابل مثلها على مدى 20 سنة الماضية.
قد يتبادر إلى أذهان الكثيرين، أن للاتحاد الأوروبي القدرة على الاستفادة من انخفاض قيمة اليورو من أجل تعزيز صادراته الخارجية وتوفيرها بسعر أرخص، وبدورها ستجلب المستثمرين وتجعل العملة أكثر «جاذبية» بالنسبة للمستثمرين الأجانب، فهل من الممكن ذلك؟ ببساطة، ونظريا، فهذا صحيح، غير أنه وتطبيقيا لن يكسب أوروبا أي فوائد، لكون التضخم سوف يلتهم كل مكسب يمكن للأوروبيين تحقيقه من زيادة صادراتهم.
على سبيل المثال، تعتبر ألمانيا صاحبة «أكبر اقتصاد» و»أكبر دولة مصدرة»في أوروبا، وانخفاض اليورو يبشر بإقبال متزايد على استيراد السلع الألمانية التي أصبحت رخيصة، إلا أن ارتفاع الطلبات الخارجية لن يفيد المصدرين الألمان، لأن التضخم في البلد فد أتعبهم بالفعل (+33.5% في أسعار المنتجين في ألمانيا للمنتجات الصناعية خلال أبريل 2022 مقارنة بأبريل 2021) بسبب الارتفاع الواضح في أسعار الطاقة، وهذا كفيل بتحويل مكاسبهم إلى «هباء منثور» حتى وإن زادت صادراتهم الخارجية وانخفضت قيمة اليورو، وأيضا لكون قطاع الصناعة الألماني قائما على «الطاقة المستوردة» بشكل لا يمكن وصفه.

(المصدر : قناة المخبر الإقتصادي+)


الكاتب : إعداد : المهدي المقدمي

  

بتاريخ : 28/07/2022