حكايات ضايةِ الفقراء، وبحرِالسّيد، وضفافٍ أخرى

أحمد المديني

اعتدت أن ألتقي به لصلة الرحم وتبادل شجون الأيام كلما حللت بالدار البيضاء، إن وجدت في طرقاتها سبيلا. موعدنا في مقهى موريتانيا الملتقى التاريخي للمحامين والقضاة بجوار المحكمة الابتدائية بمدخل الحبوس، في زمن خلا، ونفَس التاريخ الوحيد المتبقي مع بضع مكتبات عربية تعارك الزمن من أجل البقاء، هي وباعة مصنوعات تقليدية تنتظر مرور سياح هرمين. وبما أنه عزف نهائيا عن شؤون الحاضر وخاب أمله منه بعد أن تقاعد من الإدارة ارتدّ بنفسه كاملا إلى الماضي، لا يحن إليه، ولكن يشغل به فراغه يقول إنه مأواه الآمن، يحضن طفولته بالذات تشدّه إليها خيوطٌ وأشواقٌ وأشباح، ولا يملّ من حكيها أبدا.
لم أتوقع لقاء قاسم الدقّوني، والطقس لهب في الدار البيضاء. قدّرت أنه في ضيافة أحد أولاده في شاطئ ما وليكن المحمدية، الأقرب، للسباحة والاستجمام، فإذا به وهو يرد على مكالمتي مُرحِّباً، أولا، يحتج لِمَ ذهب بي التفكير مذهبَه، وما له وهجرة الناس إلى الشواطئ والبحيرات والغابات، تلك، ثم خمنت إذ يُلح على نادل مقهى موريتانيا أن تكون قهوته مقطرةً صافية سيمزمز طعمها مبتهجاً بوصولها مثل عروس فوق هودج ويغشاه متدثراًكناية ببيت الأعشى، ينشدني: «نازعتُهم قُضُبَ الرَّيْحان متّكِئاً/ وقهوةً مُزّةً راووقُها خَضِلُ».
يفتح قاسم، وقد هيأت له القهوة صفاء المزاج، جراب الذاكرة، ينظر أمامه فلا يرى في صيف الحبوس سوى ظلالٍ ناحلة، ويسمع فراغا أجوفَ مثل قرع طبل مثقوبٍ ليسرَح في صدى آتٍ من بعيد يمتطيه راحلةً إلى ربوع صباه، ونحن نلقبه الحريزي، بما أنه وُلد في برشيد وظل مشدوداً إليها بألف حبل ووتد، ومعروفاً بدفاعه المستميت عنها يعدُّها سُرّة العالم. حكى لي عنها الكثير، واليوم اقترب مني حفِيّاَ سأحكي لك ما لم تسمع وستسخر مني أو تهزل، إنما اعلم أن ذاك المكان، تلك الحفرة ستبقى عندي أمتع وأجمل بقعة؛ هي صورة عن الجنة. هكذا هو يحب المقدمات، يمصّ القهوة مصًّا وينهاك أن تجرعها هي والعمر كاللبن: برشيد يا صاحبي بطحاءُ فلاحية مِعطاء، ترابها ونساؤها أخصب ما في الأرض وحدودها السنابل على مد البصر، ورجالها بلون وغنى تربة التّيرس، لذلك أجسادهم شبق مسامُّهم اشتهاء. وفي الحر تضيق بهم فينفجرون في الإنفاق بالرقص والغناء، بعد حصاد ودراس، وأولادهم يصطادون النجوم في السماء ويتسللون إلى الخدور ويحهم ماذا كانوا يفقسون ويجنون! في فصل الصيف، يقول، نصهد كالنار وعندنا ملاذ واحد جنوب البلدة في الغابة المحيطة بالسبيطار، تتوسطها بِركة، تسمى ضاية ضويس (Duez) مِلك للمعمر الفرنسي، هنا كنا نسبح بين كرّ وفرّفي الوحل والماء ونظن أنّا ربابنة نمخر عباب المحيطات؛ كانت أجمل من بِركة المتوكل في وصف البحتري/ قد عدّها واحدةً والبحرُ ثانيها، وضاية ضويس ما زالت عندي تُباهيها!
جميل وشجيٌّ ما رويت يا قاسم أخرجتَه من شغاف الطفولة عندك لمّا تزل ريّانة، مدحتُه، فما تأففُك من شاطئ المحمدية لتبقى مسمّراًهنا في صخر الأحباس بلا حياة كما ترى ولا ناس؟
قال، هذا سيعيدني إلى أشجان أخرى فأخاف أن أُثقِل عليك والفصلُ لا يتحمّل السماجة. هوّنت عليه أُظهر له الاهتمام، كلُّ من يحكي قصة يحتاج إلى تشجيع وأذنٍ صاغية أو سيصمُت. هاتِ أبا عمر. اسمع، لي مع المحمدية قصتين: الأولى لذيذة كحلوى العيد؛ والثانية مرة قاسية. لأبدأ بالحلو أفضل. كانت تسمى فضالة،لن أسهِب في الحديث عن تاريخها، يعنيني منها أنها إحدى مرابع صباي، حين كنت أقضي أسابيع من عطلة الصيف عند خالة لي لم ترزق بالولد فصرت مثل ابنها هي وزوجها مفتش الشرطة، عرفت ذلك لما تحسّست مسدسا في البيت نهاني عن الاقتراب منه. أذكرها مدينة صغيرةً جميلةً نظيفةً تلمع، وسكانها هادؤون مهذبون، يتوزعون بين ثلاث جهات: القصبة القديمة، والجهة الأوروبية، وقسم حديثُ البناء أعلاهما يسمى العالية. من هذه الجغرافية تنقلت في الوسط، وأحتفظ بالأشجار الباسقة في الطرقات والزهور اليانعة والإسفلت الصقيل كمرآة وحفل الكِرميس السنوي، جنة صغيرةعلى الأرض.
أما المُر فهو علقم، بسببه بتُّ أنفر من البحر وأفضل كما ترى صهد الجدران على ماء التّهلكة.أحتاج إلى قهوة ثانية، وطلبها حلوة، قال لتخفف من طعم مرارة ما سيروي كما حدث ذات صيف. ذات صيف، وأنا حديث الزواج، صادف يوم أحدٍ لهب، فقلنا النجاة في الشواطئ، وبما أن عين الدياب لا متسع فيها لإبرة، قصدنا المحمدية، طريقُها سالكٌ وبحرُها مريح مسالم في الحسبان، وهكذا كان. كنت أعرف الدار. أتردد على مينائها وقتها يبيع أجود السمك بخسا، وألطف المطاعم بقربه، وأجمل ما يشدني الساحة الفارهة متنزه مفتوح مزدان بأشجار النخيل وبسط الأعشاب منسقة وأصص الأزاهير يانعة طول العام، على اليمين الكازينو الشهير، تقابله مطاعم ومقشدات من طراز رفيع، وخلف الساحة تلة خفيفة يمتد فيها حي فيللات ومساكنُ فخمة منها المشرف على البحر مباشرة طرقه نظيفة وغارق في صمت أهل الكهف؛ إذا أطللت من أوله الساحة أمامك لسان حيث تقع بناية الأمن المركزية مثل حمامة بيضاء، أمر بها ولا أكاد أراها، ولم أُعِرها أبدا زيادة اهتمام إلى أن رأيتها بأم العين وحتى القاع.
تنفّس قاسم بعمق وتلفت حولنا يجلس شخصان جلمودان يعلكان الفراغ، قبل أن يستأنف. قصدت بسيارتي هذا الحي في نهايته موقف سيارات ونزلنا باتجاه الشاطئ على خطوات. ذهبنا إلى ركن قصيّ بدا منه كالصّريم يحاذي جدارا صخريا عاليا وخلفه دارة يفصلنا عنها سور. نشرنا منشفتين وبالكاد استلقينا لنتلقى ذهب الشمس، هزتني صعقة إنذار من حارس القوات المساعدة: يا لله، نوضوا، هدي بلاصة سيدي ومولاي! هزينا قلاعنا لم نفقه كلامه إلا بعد دقائق وقد أنخنا على بعد مائتي متر وسط المستحمين ليقف على رأسي جمع شرطة غفير وهم يدفعونني دفعا، وحدي، عارياً إلى بناية الأمن، ورموني في دهليز داخل مرحاض لا أذكر كم قضيت فيه، بعد أن صعدت في اليوم التالي إلى مكتب ضابط محقق سمعت سنوات سجن تتطاير من شرارة لسانه، تجرؤ يا ابن الفاعلة التاركة أن تقتحم شاطئه وتسبح في بحره وتشتمه، هذا بحر سيدك يا ولد العريان، ومن سبّ البحر فقد سبَّه!وفي زنزانة المرحاض خرج لي جرذ ضخم وطفق يأكل أطرافي إلى أن فنَيت، وانتقلت بعد أعوام إلى ضفاف أخرى.

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 17/08/2022

التعليقات مغلقة.