المغرب الكبير في‮ ‬مهب الأزمة التونسية – المغربية

عبد الحميد جماهري

لم‮ ‬يَحِدْ‮ أستاذ التاريخ المعاصر في‮ ‬جامعة السوربون، بيير فيرموران،‮ ‬عن الصواب كثيرا، عندما تنبأ‮ بأن‮ «‬منطقة المغرب العربي‮ ‬بأسرها على وشك الانهيار بسبب أزمة الطاقة والغذاء‮‬،‮ ‬وانعدام الأمن في‮ ‬منطقة الساحل والخلافات بين الجزائر والمغرب». لم‮ ‬يخطر بباله ربما،‮ ‬لحظة تصريحه هذا‮، ‬يوم‮ 82 غشت الجاري،‮ ‬أن توقّعاته ستتعزّز بالأزمة التي‮ ‬طرأت بين المغرب وتونس،‮ ‬بسبب استقبال رئيس تونس، قيس سعيّد، زعيم الانفصاليين في‮ ‬جبهة بوليساريو،‮ ‬لحضور قمة «تيكاد‮ ‬8‮» ‬التي‮ ‬تجمع دولاً أفريقية واليابان‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‬تمسّك المغرب الرسمي‮ ‬بالصمت البليغ‮ ‬في‮ ‬التعليق على مجريات الأحداث في‮ ‬تونس،‮ ‬سواء كانت ذات صلة بالمغرب نفسه،‮ ‬أو لها علاقة بالتطورات الداخلية لتونس ذاتها،‮ ‬كما تتفاعل مع ذلك عواصم عربية كثيرة‮. ‬وكان أكبرَ امتحان لهذا الموقف الحيادي‮ ‬المفكّر فيه الموقفُ التونسي‮ ‬ذو العلاقة مع قضية المغرب الأولى،‮ ‬أي‮ ‬قضية الصحراء،‮ ‬حيث تمسّك المغرب بعدم إعلان أي‮ ‬موقفٍ تجاه تونس قيس سعيّد، عندما امتنعت عن التصويت في‮ ‬مجلس الأمن على قرار‮ ‬يخصّ‮ ‬قضيته الأولى،‮ ‬هو القرار 2602 الذي‮ ‬حظي‮ ‬بتفاعل إيجابي‮ ‬لـ13‮ ‬ دولة،‮ ‬وامتناع اثنتين،‮ ‬روسيا وتونس‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ وكان لافتا بالفعل أن الرباط التزمت الصمت المطبق حيال هذا الموقف في‮ ‬أكتوبر الماضي،‮ ‬خصوصا أن تونس كانت،‮ ‬بشكلٍ ما،‮ ‬الصوت العربي‮ ‬الأفريقي‮ ‬في‮ ‬مجلس الأمن،‮ ‬كما أن الموقف كان مخيّبا للآمال لقطاع واسع من ‬الرأي‮ ‬العام المغربي‮ ‬الذي‮ ‬أَلف نوعا من الحياد التونسي‮ ‬في‮ ‬قضيةٍ ملتهبةٍ في‮ ‬منطقة المغرب الكبير‮. ‬والمثير حقا أن الموقف التونسي‮ ‬أثار جدلا واسعا داخل تونس أكثر منه داخل المغرب،‮ ‬لاعتباراتٍ‮ ‬عديدة،‮ ‬منها أن تونسيين كثيرين رأوا فيه‮ «‬جيوستراتيجية انعزالية‮» ‬دفعت تونس إلى معسكر ‮.. ‬موسكو!
بغض النظر عن تفاصيل ما وقع،‮ ‬والذي‮ ‬سارت بذكره الحوليات الدبلوماسية المرافقة للحدث،‮ ‬فلا أحد سيُغامر بالتفاؤل‮، ‬واستعطاف الحظ‮ ‬في‮ إخراج المغرب الكبير من دائرة الموت النهائي،‮ ‬أو على الأقل الموت الدماغي‮ مدة جيل أو جيلين‮، ‬بعدما خرجت تونس من دائرة الحياد،‮ ‬في‮ ‬قضية تلغم المنطقة وتقاس على ضوئها مواقف الدول‮، ‬وهي‮ ‬التي‮ ‬طالما‮ ‬غذّت الحلم المغاربي‮ ‬بمبادراتها‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ ولا أحد أيضا سيلغي‮ من مستقبل الاحتمالات‮ ‬انطلاق قطار آخر،‮ ‬يزيد من التوتر في‮ ‬منطقة صارت مفتوحة‮ ‬على أسوأ الاحتمالات‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ فقد خرجت ليبيا،‮ ‬بالرغم منها، من دينامية المغرب الكبير،‮ ‬بفعل تفكّك الدولة واستعصاء الحل السياسي،‮ ‬وتحولها إلى نفق الاستحالة‮، ‬من حيث العثور على حل سلمي‮ ‬لتناقضات مكوّناتها السياسية،‮ ‬من جهة، ووجود‮ ‬رهانات إقليمية ودولية بالكاد تخفي‮ ‬نفسَها في‮ ‬الساحة من جهة ثانية‮.
وما زال القطب المغاربي،‮ ‬أو الدينامو المنتظر أن‮ ‬يقود المغامرة المغاربية، بل الذي‮ ‬سبق له أن احتضن إعلانها الأول، أي‮ ‬الجزائر والمغرب، في‮ ‬لحظة توقف تاريخي‮،‮ ‬مع القطيعة المعلنة‮ ‬من طرف واحد بين البلدين،‮ ‬وأيضا بسبب تشعّبات الوضع الإقليمي‮ ‬وتغير قواعد الاشتباك في‮ ‬المنطقة،‮ ‬بعد الحرب الروسية الأوكرانية، وتحوّل منطقة المتوسط إلى ساحة‮ تنافس ‬دولي‮ ‬وإقليمي‮، عسكري‮ ‬واستراتيجي‮.
‮وفي‮ ‬الوضع الحالي،‮ ‬ستخرج تونس من حيادها،‮ ‬وبالتالي‮ ‬ستجد صعوبةً، إن لم نقل استحالةً، في‮ ‬الحديث إلى ‬الرباط‮، ‬باعتبارها ممرّا إجباريا في‮ ‬أية خطوة تنسيق أو وحدة مغاربية.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ والحال أن تونس ظلت ترعى هذا الحلم المغاربي،‮ ‬بفعل توازناتها الدقيقة في‮ ‬المنطقة،‮ ‬وبسبب مكر الجغرافيا الذي‮ ‬وضعها بين دولتين قويتين نفطيا وعسكريا‮، ‬متقاربتين في‮ ‬النشأة العسكرية للدولة، هما ليبيا والجزائر‮، في‮ ‬حين ظلت تونس قطبا ليبراليا‮ ‬يحظى بمتابعة واسعة‮ ‬تضعها القوى الدولية في‮ ‬مرتبة فريدة، ما‮ ‬يجعل الاستقطاب الذي‮ ‬تخضع له قويا‮، ‬وأي‮ ‬تحرّك لا توازن فيه‮ ‬يصعب تجاوزه أو بناء بديل له‮ ‬غير محفوف بالمخاطر.
سبق أن دخلت المنطقة المغاربية في تقاطعات دولية،‮ ‬لعل أهمها استقطابات المعسكرين، الغربي‮ ‬والشرقي،‮ لكنها لم تخضع لمثل الحدّة الحالية. ومن المفارقات أن أزمات المغرب الكبير تتواصل وتتعمّق،‮ ‬في‮ ‬وقت ‬تعلن فيه قوى خارجية‮، منها ألمانيا وإسبانيا‮‬،‮ ‬وإلى حد ما الاتحاد الأوروبي،‮ ‬عن ضرورة‮ «‬تعزيز دور المغرب الكبير‮ في‮ ‬الاستقرار الإقليمي» ‬كما ورد ذلك في‮ بيان‮ وزيرة ‬خارجية ألمانيا، أنالينا بيربوك، على إثر زيارتها المغرب الأسبوع الماضي‮. ‬وكان لافتا أن الرئيس الفرنسي‮ ‬السابق،‮ ‬فرانسوا هولاند،‮ ‬كتب‮ ‬يدعو إلى استئناف النشاط المغاربي‮ ‬الأوروبي‮، ‬وألحّ في‮ ‬مقالة له، صدرت في‮ ‬8‮ ‬غشت الجاري،‮ ‬على صفحات اليومية الفرنسية‮ «‬لو فيغارو‮» ‬على‮ «‬استعجالية وضرورة استئناف التعاون الفرنسي‮ ‬المغاربي‮، ‬وتنشيط الشراكة الأوروبية مع المغرب الكبير‮».
ربط كثيرون بين الزيارة التي‮ ‬قام بها الرئيس الفرنسي، ماكرون،‮ ‬إلى الجزائر وخطوة تونس،‮ ‬في‮ ‬تزامنٍ مع بحث باريس عن أدوار فردية لها‮ ‬‬في‮ ‬المنطقة‮ المغاربية، وفي‮ ‬تزامن أيضا‮ مع الجفاء السائد بين باريس والرباط،‮ ‬ومحاولة عزل المغرب عن محيطه المغاربي‮، في‮ ‬ما‮ ‬يشبه رد الفعل على توسيع التحالف مع الولايات المتحدة‮، ‬بعد اعتراف الأخيرة بسيادة المغرب على صحرائه‮، ‬وهو ما رأت فيه باريس نوعا من الابتعاد عن‮ «‬الحلفاء التقليديين‮»،‮ ‬كما ذهبت إلى ذلك تحليلات ‬فرنسية‮ كثيرة. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
لقد استطاع المغرب معالجة أزمتين مع ألمانيا وإسبانيا في‮ ‬وقت واحد،‮ ‬وهو‮ ‬يواجه اليوم أزمة مزدوجة، قطباها تونس والجزائر، وهو مدرك أن هناك رهانات لجمع مغرب إسلامي‮ ‬عوض المغرب الكبير‮. وجاءت الدعوة في‮ ‬وقتٍ‮ ‬تعيش المنطقة على صفيح ساخن،‮ ‬مفتوح على كل التوقعات من جهة،‮ ‬وتسير كل دولة من الدول المذكورة فيه،‮ ‬حسب مدار سياسي‮ ‬وإقليمي‮ متشابك بالنسبة لكل واحدة منها،‮ ‬من جهة ثانية‮. ‬ومما زاد من هول التأثير ‬التقاط إسلامي‮ ‬آخر،‮ ‬من داخل الجزائر،‮ ‬رئيس حركة مجتمع السلم‮ (‬حمس‮)‬،‮ ‬عبد الرزاق مقري،‮ ‬هذا النداء،‮ ‬فدعا إلى التنفيذ الفوري،‮ ‬أو على الأقل الانحياز السريع لأطروحة المغرب الثلاثي،‮ ‬لعزل المغرب،‮ ‬ودفعه بعيدا عن المغرب الكبير،‮ ‬بدعوى استئناف العلاقات مع إسرائيل‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ومن مظاهر التأزيم المستمر أن كل دعوات التهدئة ومد اليد والانتصار للمستقبل لم تجد آذانا صاغية‮. وقد‮ ‬يعطي‮ ‬الانحياز التونسي‮ ‬أكبر مساحة انزياح لكي‮ ‬يسير‮ هذا المشروع نحو التفعيل، ولو بهواجس إقليمية مؤقتة‮. ‬لا‮ ‬يمكن أن تمر‮ ‬بدون أثر عميق في‮ ‬نفسية الشعوب‮ ‬التي‮ ‬ما زالت تبحث عن الديمقراطية لكي‮ ‬تسير نحو الوحدة،‮ ‬كما تم في‮ ‬أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
(نشر بالعربي الجديد 30 غشت 2022)

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 31/08/2022

التعليقات مغلقة.