أعلام في الذاكرة برحاب الجامعة المغربية : استحضار عبد المجيد بن جلون استعادة لزمن ولحراك مجتمع يبحث عن الحرية والحياة

 

نظمت كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة محمد الخامس بالرباط، بشراكة مع مؤسسة «فكر للتنمية والثقافة والعلوم « يوم الخميس 9 مارس الجاري، ندوة وطنية تحت عنوان «أعلام في الذاكرة» احتفاء بعلم مغربي متفرد بصم تاريخ الأدب المغربي الحديث وهو المبدع الراحل عبد المجيد بنجلون من خلال سيرته الذاتية «في الطفولة». وتأتي هاته الندوة الوطنية في إطار سلسلة الندوات الوطنية التعريفية بأعلام في الذاكرة المغربية الجماعية وهو العرف الثقافي الذي دأبت كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط على مأسسته داخل فضاء الكلية لإشاعة الفكر التنويري والوقوف عند كل المفكرين المغاربة الذين أغنوا المكتبة المغربية في عدة أجناس علمية وفكرية وثقافية متعددة.
تقترن هذه المبادرة العلمية حسب د. محمد درويش رئيس مؤسسة فكر للتنمية والثقافة والعلوم، برسالة المؤسسة المدنية والمؤسسة الأكاديمية المقتنعتين بكون الإبداع الفكري والثقافي المغربي لا يتحدد من خلال حقب زمانية منفصلة تحدث بينها قطائع، وتفصل بينها مسافات، ولكن هذا الإبداع ينتظم داخل سيرورة تبلور فيها تألقه في مجالات الإبداع وحقول المعرفة المتعددة، لذلك اغتنى متن الثقافة المغربية بنصوص رئيسة في مجالات الشعر والنثر والبلاغة والنقد واللغويات والأصول والمنطق والفلسفة والعلوم والتكنولوجيا، وغيرها من الحقول المعرفية، ووسمت الذخيرة الثقافية المعرفية المغربية علامات بارزة.
إن استحضار بعض الأعلام من مثل الحسن اليوسي، والمختار السوسي، وعبد المجيد بنجلون وعلال الفاسي، وامنة الفاسي وعبد الكريم غلاب ومحمد برادة وأحمد اليابوري ومحمد جسوس ومحمد عابد الجابري وعبد اللطيف بنجلون وعبد الفتاح كيليطو …وغيرها من الأسماء التي ساهمت بإنتاجها في تراكم الفكر المغربي، يبرز الإسهام الفكري والمعرفي للثقافة المغربية ليس في محيطها القريب والمحلي ، ولكن في المنظومة الفكرية والثقافية الكونية.
إن تنظيم هذه اللقاءات يهدف حسب د. درويش إلى ربط الإضاءات المشرقة في الماضي بالإسهامات التي أثْرَت نسق الثقافة المغربية في الحاضر، كما يلقي الضوء على إسهام هذا الجيل في ترسيخ قيم ثقافية ومعرفية جديدة تنشغل بالحياة في شتى تشكلاتها، وتترجم قناعات عانقت قيم الحرية والهوية والأصالة في مواجهة المستعمر، أو كانت تنشد قيم التحرر خلال مرحلة ما بعد الاستقلال.
إن العودة إلى عَلَم من أعلام الثقافة المغربية الحديثة، وهو الأديب عبد المجيد بن جلون، من خلال النص الرائد الذي كتبه في نهاية أربعينيات القرن الماضي «في الطفولة»؛ تترجم ما شكله الأديب من علامة رئيسة في الثقافة والإبداع المغربيين، وهي أشهر سيرة ذاتية مغربية، موضوعها مسيرة حياة طفل مغربي تنقل بين بيئتين مختلفتين، وما صاحب ذلك التنقل من بحث عن الذات والآخر، حتى أن ذكرها يلتصق باسم عبد المجيد بنجلون واسمه يلتصق بها، دون إغفال ما تركه بنجلون من إنتاجات أدبية وصحافية ودبلوماسية أرخت لمرحلة مهمة من تاريخ المغرب والتي جسدت أساس بناء المغرب المستقل، وعليه فإنه استحضاره هو استعادة لذاك الزمن وذاك الحراك الوطني لمجتمع يبحث عن الحرية والحياة الكريمة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية في سياقات دولية خاصة.
في نفس السياق، اعتبر عميد كلية الآداب و العلوم الإنسانية جمال الدين الهاني أن للمكرم مكانة خاصة في الذاكرة الوطنية المغربية ، معتبرا بأن الأمم تغتني بثراتها المادي واللامادي وهو رأسمالها الذي يحدد هويتها وامتدادها في التاريخ، ويعكس صورتها الحضارية والجيوسياسية. وكما هو معروف فإن الرأسمال اللامادي يستوجب كل الرساميل المتداولة ومن ضمنها الرأسمال البشري والفكري والاجتماعي، وفي هذا الإطار يأتي الاهتمام بأعلامنا الذين رسخوا أسماءهم في الثقافة المغربية والعربية والدولية بحروف من ذهب. وإذا كان أجدادنا من المفكرين الصادقين الذين ملأوا الساحة الثقافية والفكرية نورا يملأ الفكر والوجدان، فإن من أحفادهم من يحملون الرسالة من ثلة المفكرين والمبدعين من ساروا على درب أسلافهم ، وضمنوا ترسيخا وتنويرا للحاضر واستشرافا للمستقبل.
عبد المجيد بنجلون هو علم مغربي متفرد ازداد سنة 1919 وتوفي سنة 1981 بالرباط، جمع حسب د. الهاني بين السياسة والأدب وفيهما أبدع في الوفاء للوطن أيام النضال السياسي غداة الاستقلال، كما ساهم في تأسيس مكتب المغرب العربي بالقاهرة وشغل منصب كاتبه العام، بالإضافة إلى مشاركته في حرب تخليص الأمير المجاهد عبد الكريم الخطابي من أيدي الفرنسيين عند مروره إلى منفاه بمصر، تولى كذلك مهمة وزير مفوض لوزارة الخارجية المغربية بعد الاستقلال ثم سفيرا للمغرب في دولة باكستان في ما بعد، فلم تحل كل المهام الموكلة إليه دون شغفه بالكتابة التي أبدع فيها بعدة أجناس أدبية تتنوع بين السيرة الذاتية والقصة والقصيدة وغيرها، فمن لم يقرأ «في الطفولة» التي بوأته الريادة في كتابة السير الذاتية و»وادي الدماء» وغيرها من الكتابات الأدبية والسياسية والديبلوماسية.
حاز، كذلك، على جائزة المغرب للأدب والفنون ثلاث مرات كما تولى رئاسة جريدة العلم الورقية قبل التحاقه بالخارجية، ويرى د. الهاني بأنه من واجبنا الوقوف اليوم عند مساره كعربون وفاء له وترسيخا لفعل إحياء التراث الأدبي والفكري والمحافظة عليه وربط الماضي بالحاضر تأسيسا للمستقبل واستشرافا لآفاقه.
محمد السيدي رئيس شعبة اللغة العربية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، اعتبر أن التكريم بادرة طيبة للتعريف بالأعلام المغربية الراسخة في الذاكرة الجماعية، فالاحتفاء بعبد المجيد بنجلون الذي عرفناه جميعا عن طريق منجزه الإبداعي «في الطفولة»، جاء في ظرفية حساسة نحن في أمس الحاجة إلى تذكر من سبقونا وإلى تذكر ذواتنا ومن شاركوا في بناء الذات المغربية ثقافة وإبداعا وفنا، ولأن كثيرا من طلبتنا إذا ما سألناهم عن أعلام الفكر والثقافة والابداع فلا نجدهم يذكرون منها سوى اسم أو اسمين، وهذا ضعف ونقص في التكوين لابد من الانتباه إليه والاعتناء به، وهي مناسبة ودعوة للباحثين الشباب إلى إعادة النظر في اختياراتهم، وإلى التوجه نحو المغرب لمعرفة الذات لأننا إذا لم نعرف ذاتنا لن نستطيع إدراك العالم من حولنا، لهذا فإن العودة ضرورية إلى ذواتنا وثقافتنا حتى وإن يراها البعض في هذا النوع نوعا من الشوفينية أو نوعا من الانكماش لكن لابد منه بالموازاة مع ما هو حاصل، فنحن مطالبون ومطالبات بالدفاع عنه ولن يتأتى ذلك إلا بمعرفة أعلامنا رموزا وثقافة..
وذكر د. السيدي بأن عبد المجيد بنجلون حتى وإن ولد في الرباط لكنه تشبع بثقافة الإنجليز في مقابل التشبث بالوطن الذي كان يصفه بمراكش في إشارة منه للمغرب كوطن وليس المدينة فقط، خاصة مراكش التي كانت تطلق على مملكة المغرب قديما، كما أن بنجلون تتلمذ في القرويين بفاس عندما عاد من إنجلترا مع عائلته وهو ابن عشر سنوات، حيث اغترف كل المعارف العربية، في ما بعد انتقل إلى القاهرة ليستكمل تعليمه العالي، حيث انتقل من التعليم التقليدي إن شئنا إلى التعليم العصري بجامعة القاهرة التي نال فيها شهادة الإجازة في الأدب العربي ثم حاز على دبلوم الصحافة والترجمة والتحرير.
اشتغل في التحرير حيث ناضل بقلمه وفكره وإبداعه فلم يترك أي مدينة من مدن الوطن إلا وكتب عنها ومعرفا بها في مهمة ثقافية نبيلة، بالإضافة إلى دوره في إنشاء مكتب المغرب العربي في القاهرة حيث شغل مهمة كاتبه أو أمينه العام الذي كانت تربطه علاقة قوية بالحركة الوطنية آنذاك.
وعودة إلى السيرة الذاتية «في الطفولة»، التي إذا قرأتها حسب د. السيدي، ستلاحظ أن كاتبها قد تحمل المسؤولية الفردية باستعمال ضمير الأنا فتكلم دائما بضمير المفرد المتكلم، الذي كلما اعتمدناه في كتابتنا إلا وعبر عن حس عال من المسؤولية في تحمل ما نقوله وإدراك تبعاته.


الكاتب : إيمان الرازي

  

بتاريخ : 15/03/2023