أدونيس : المرأة أول كائن عربي يضع رأسه على الرف ويكتب بجسده

«هكذا تتكلم أدونيادا»: خطوة نحو اللاتحديد

 

ضاقت، أول أمس الخميس 8 يونيو 2023، قاعة رباط الفتح بفضاء المعرض، ضاقت بما رحبت بجمهور الشعر ومحبي الشاعر العربي أدونيس، ممن جاؤوا لحضور لحظة مميزة امتزج فيها الشعر باللوحة والحرف باللون والعلامة، من خلال تقديم كتاب «هكذا تتكلم أدونيادا».. الكتاب الذي يجمع تجربة مشتركة للشاعر والفنان تروم محاولة تجذير إبداع وفكر أدونيس في مستقر التعبير التشكيلي.
«أدونيادا» أدونيس، التي عانق فيهاالوجود بما يتخطاه ويتجاوزه، وتجاورت فيها الأسطورة والدين والفلسفة والعلم والتراجيديا والخرافات والرؤى والسحر ، وتفاعلت واشتعلت واحتفت بالطبيعة في بكارتها، وفي تناقضاتها وفي انسجامها، شكلت سماد هذه التجربة التشكيلية التي اشتغل عليها الفنان أحمد جاريد.
عن هذه التجربة أكد الشاعر والناقد أدونيس أن العمل المشترك مع الفنان أحمد جاريد، والصادر عن «مكتبة المدارس»، يندرج ضمن مشروع منهجس بهم ثقافي متشعب يؤمن به، ويتمحور حول العلاقة بين الذات والآخر، بين العرب والعالم الخارجي وضمنها الهم الثقافي لأن» بناء العالم الحضاري في أساسه بدأ من نقطة هذا العالم العربي». دون أن يستفيد العرب من هذا التراث ويحسنوا قراءته وتوظيفه رغم إقامتهم فيه، مضيفا بهذا الخصوص أننا في منطقة البين -البين لأننا «معلقون ولا موجودون في الماضي، ، ولا في الحاضر إلا شكليا. ما دمنا « نعيش اليوم كعرب بين هويتين: هوية استعادة الماضي، وهوية الاستعارة من الخارج. نتأثر ونتفاعل على مستوى الألوان والنظرية، ونهمل المستوى المادي.
وتساءل أدونيس:» لماذا لا …نستعيدإلا الجانب المكتوب الذي يعود إلى ما قبل الفتوحات الإسلامية »ونهمل الحياة العظيمة والعريقة في هذه المنطقة»؟«و» لماذا يظل اهتمامنا كعرب محصورا على مستوى الرأس ونهمل الجسد، ولا نقترب من مادة هذا العالم ؟ ما يفيد أننا نعيش الجدة ونراها» في الجسد العربي فقط وليس في رأسه « مضيفا أننا نتأثر بالشعر العربي القديم ولكننا لا نتساءل: كيف جاءت هذه الكتابة ولا نكتب هذه الأرض التي تعاقبت عليها تجارب إنسانية غنية منذ بداية التاريخ الكوني. منتقلا الى الحديث عن التعاطي النقدي العربي مع فكرة «الحداثة» قائلا:» تمنيت من النقاد العرب الذين انتقدوا تجربة مجلة «شعر» وكتابها، باتهامم بأنهم ضد التراث والشعر العربي، لو أشاروا الى شيء أساسي في الثقافة العربية متعلق بمفردات «الحداثة» و»الحديث» و»المحدث» في الشعر العربي بدل اتهامنا باستيراد المفهوم من الغرب رغم صحة ما يقولونه» رغم أننا «أهملنا حداثتنا… ولم نتأثر، حقيقة، بالشعر الأوربي لأننا نقلنا بعض الصور الشعرية والعلاقات البسيطة فقط، ولم نقرأ التراث لا العربي ولا الأوربي بعمق».
وحول ممكنات الكتابة الشعرية اليوم، سجل أدونيس بكثير فخر، ما تشكله كتابة المرأة العربية اليوم من خلخلة واختراق لأراض شعرية تنكتب بالجسد وله، معتبرا أنها «كتابة أكثر أهمية مما كتبناه وكتبه جيل الرواد»، مضيفا أنه « لأول مرة «يأتي كائن عربي يضع رأسه على الرف ويكتب بجسده ومشكلاته»، بما يخلق عالما جديدا من العلاقات: بين الحرف والكلمة، بين الكلمة والكلمة، ثم بين الكلمة والأشياء، و هو ما جعله يعتبر هذا الكتاب المشترك مع …. الفنان أحمد جاريد، احتفاء بالمرأة العربية.
ولفت أدونيس في نفس السياق إلى أن «الجسد العربي في الشعر غير موجود لأننا عندما نكتب عن الحب مثلا، لا أحد يكتب عن حبه هو».
وبانتقاله إلى مجال التشكيل، سجل أدونيس أن الفنان العربي يستسلم كليا للمبادئ والحدود التي رسمها عصر النهضة،رغم أن الأوربيين حاولوا أن يخرجوا من هذه الحدود،» لكننا كعرب نعيش اللوحة ونتمثلها كما رسمها عصر النهضة. متسائلا: لماذا لا تدخل الكلمة العربية كبعد تأويلي في اللوحة وليس كبعد زخرفي، يؤالف بين الكتابة بالخط العربي والألوان؟ ولماذا لا تنفتح القصيدة على كل الأشكال الإبداعية الممكنة، ولماذا لا يتحرر العربي من ثقافة الرأس ويعبر الى الجسد المتحرر.
وبخصوص هذا العمل المشترك ، قال أدونيس إنه لأول مرة يرى «عملا تتآخى فيه الحكمة، لتصبح ذات بعد تكويني تنهض عليه اللوحة، تتآخى مع اللون ومع تناغم «المهمل» في الطبيعة لتخلق أبعادا وتكوينات جديدة توسع حدود الكتابة الشعرية وحدود التشكيل، وتخلق أشكالا، بتغيرها تؤكد تغير التجارب.
مضيفا أن هذا العمل هو «خطوة نحو اللاتحديد، وخروج عن اللوحة النهضوية وخروج عن نمطية القصيدة العربية».
الناقد والأكاديمي عبد الرحمان طنكول، اعتبر من جهته أن الكتاب محاولة لخلق علاقة جديدة بين التشكيل والشعر، تتوخى استنبات القصيدة في مستقر الصورة والعلامة، وتؤكد رغبة الفنان في تحويل العمل الذي يقوم به، على مستوى الألوان والأشكال والعلامات، تعبيرا لغويا. وأضاف طنكول «أننا أمام هذا العمل، نجد أنفسنا أمام خطين متوازيين، لكنهما يتماسان بهدف خلق الأثر لدى القارئ والمشاهد وخلق قيمة مضافة للعمل.»
وأشار طنكول الى أن هذه القيمة تطرح سؤال التلقي بدوره، ويتمثل في مسألة التصنيف والمعنى المراد تحقيقه من العمل، ثم أفق الانتظار الذي يبحث عنه.
وبما أنه عمل يمزج بين الميتافيزيقا والتصوف والفلسفة، فمن الطبيعي أن يحدث قلقا، قلق المعنى وقلق التصنيف بما يجعل منه إبداعا ملتبسا بتعدد أبعاده ومستوياته، يتقصد «خلق دهشة وقلق وتغيير نظرتنا إلى العالم والحياة، بحديثه عن »الحب، عن الرماد، عن قضايا بسيطة لكنها تمتد في أعماق الفكر الفلسفي»، بما يجعل منه «مشروعا يتوغل في البحث عن نقطة »ضوء في مستقر غامض«،»وليس اختيارا اعتباطيا من الفنان أحمد جاريد الذي اتسمت تجربته التشكيلية، منذ بداياتها، بالحفر و»»تقصي تجربة الأقاصي وما لم يقل تشكيليا للقبض على انتظار القارئ والمشاهد، وانهجس في تجربته أيضا بالاشتغال على «مشروع بمعالم ورؤية حول العالم الذي يمر برجات وتراجع على مستوى المفاهيم والقيم».
من جهة أخرى، اعتبر طنكول أن هناك من يعتبر العمل »سيرة ذاتية لأدونيس رغم أن »»المبدع لا يشيخ« «، و»كلما تقدم في السن، فإنه ينزع نحو خلق وابتكار نواميس جديدة في تجربته». إلا أنه يتجاوز سيرة حياة ويضع التجربة في مقامات أخرى على القارئ أن يستجليها من أجل خلق علاقة تفاعلية بين الأشكال، لأننا «لا نريد أدبا يصالحنا مع الواقع، بل إبداعا يبحث عن الجديد ويغير نظرتنا للعالم».
عن تجربة هذا العمل المشترك التي نأى بها الفنان جاريد عن السقوط في المرآوية الناسخة، بما يمنح قصيدة أدونيس أبعادا أخرى، اعتبر أحمد جاريد أن عدته الفكرية والفنية التي راكمها من تجربته الطويلة في الفن والشعر والفلسفة والحياة، جعلته يميل دوما ألى تجاوز المباشر والركيك نحو المجاز، مستطيبا» مناطق الالتباس لأن الفن لا يحب الوضوح»، جانحا في هذا العمل الى «أبعد ما يستطيعه ويصله الخيال»، مشبها نص أدونيس بـ»المحيط الذي يبدو فيه أدونيس ملاحا، تارة هادئا، وطورا في إعصار جامح وزوابع من المعاني».. معان حولها جاريد الى تشكيل يتخلى فيه الشعر عن شكلانيته وينصهر في شكل رسم، بحيث» لا يكاد يبتدئ شكل الشعر في قصيدة أدونيس، حتى ينصهر في رسوماتي»، محافظا رغم عملية الصهر هاته، لقصيدة أدونيس أمام اللوحة، على كامل طراوتها ونعومتها وسيطرتها أيضا لتقول كلمتها الأخيرة.
وعن اختياره لديوان أدونيس بالتخصيص، أكد جاريد أنه لم يختره لأنه شعر لا يتسع للتقليدانية وليس لأن شعره لامع المحتوى، ولكن لأن «المحتوى مصبوب في شكل ثوري الطيع وجريء وغاية في البراعة»، معترفا أن «عملي هذا لا يضيف للشعر شيئا ليكون شعرا، ولا أدعي أن أشعار أدونيس لا تضيف لخبرتي الفنية شيئا»، ليخلص الى أن هذا اللقاء الشعري الفني جعل الرسم استعارة لترى القصيدة نفسها، وجعل القصيدة لسان الرسم لتنطق بما يستغوره، وهو اللقاء الدافئ المنتج للأثر.


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 10/06/2023