لعنة اللغة

 

قال صديقي وهو يحملق خارج الزجاج الذي وضعه صاحب المطعم حدا بين الزبناء وبين المارة: أترى شفاه هؤلاء المارة إنها لا تتوقف، فهي تقول أشياء لا يمكننا تحديدها ، لكنها على كل حال تقول أشياء ما، المشكل أنها لا تتعب وهي متحركة في كل الاتجاهات. قد يكون ما تتفوهه سفيها وقد يكون مفيدا وقد يكون تافها أو ربما غير تافه، لكنها عموما تتحرك، قد يكون الفم المتحرك يصدر رائحة تنفر وقد يكون عكس ذلك.. ارتشفت جرعة شاي من الكأس التي أمامي محاولا استجماع شتات انتباهي، كي أكون أكثر تركيزا، فصديقي هذا متعب جدا في أمور عديدة يطرحها في غفلة منك، نظرت إليه محاولا مسايرته، لكنه عاجلني بجملة آمرة: «انظر إليهم ولا تنظر إلي، اعتبر نفسك متفرجا ولو لمرة، لماذا أنتم هكذا تميلون لأن تكونوا كومبارسات حاضرة في كل شيء، استمتعوا ولو لمرة كونكم مجرد زوار متفرجين: لماذا تهربون من الفرجة « ؟ ..
استويت في مكاني ورميت بعيني حيث تنتصب عيناه، حاولت التركيز لكي أجاري مراميه ، غبت قليلا عن إشاراته وهمهماته وتهت بين الشفاه والأسنان المتحركة في الوجوه المتجهمة والخرى المرحة، وجدتني أسبح وسط حروف لا أسمعها ولا أتبين معانيها ، أحسست وكأني ألتهم أو أني بدون معنى وسط ملايين الكلمات الصادرة في آن واحد ، وكم من ملايير الأحرف الصادرة في تلك اللحظة على طول خارطة هذه الأرض ، وما معنى نحن وسطها ، فهمت بصيصا مما عناه حينما قال لي كن متفرجا ولو لبرهة، وقبل أن أتمادى أكثر مع خيالي فيما طاحونة الأفواه غير متوقفة ، سألني: هل فهمت ؟ أجبته: لا، ماذا تريدني أن أفهم؟ ، ابتسم بتهكم ورد علي: إن كل تلك الحركات على اختلاف أدائها نختصرها جميعا في كلمة أصواتأ كلام أو لغة إن شئت، اختر ما يعجبك، ألا ترى أنها متاهة ؟
استنكرت عليه كيف تقول متاهة إنها الأداة الوحيدة للتواصل ؟ نعم – ليجيبني – قلت الكلمة إنها التواصل، أو لا ترى أنها منهكة ؟ أجبته: لست أفهم! حدق في جيدا وهو يمتص لفافة الدخان التي بين يديه ، فاستطرد: كل تلك الكلمات الصادرة عن تلك الأفواه المتعبة ، ليست صحيحة في معانيها وجلها يحتاج إلى تأويل ، فهناك ممن تراهم يتحدثون في ما بينهم من جرحوا بعضهم دون قصد منهم أو أبهجوا بعضهم بقصد أو غير قصد ، قلت له لماذا تدخل في هذه الفرضيات، فأكيد أن الكلام في ما بينهم واضح . قال لي: اسمع ، الأمر ليس بتلك البساطة التي تعتقد ، مجمل كلامنا يحتاج الى تأويل خاصة عندنا نحن دول الجنوب، فأحيانا الكلمة عندنا لا تعني نطقها، أو تعلم بان كلمة « ضرب « مثلا لا تعني الضرب عند بعض المؤولين عندنا وإن أصريت أنت على لفظها اللغوي قد تصنف ضمن طائفة دون أخرى ؟ ران صمت طفيف بيننا ثم بادرته: لم أفهمك صديقي اشرح أكثر ، قال لي إن لعبة الكلام أو اللغة مضنية، هذا ما أحاول شرحه لك، فقديما في العصور غير المتنورة ، كان على المفكر او الاديب او من يريد أن يقول فكرة ان يجوب عالم الاصطلاحات المنمقة كي يمرر ما يريد دون حدوث مشاكل، أو كي لا تصدر بشأنه الطبقة المتحكمة حكما قاسيا ، لذلك كان عليه أن يتحول الى جهبيذ لغوي وعالم لتاريخ الاصطلاحات ليقول فكرة لا تتعدى كلمتين ، لذلك تجد أن الكتب القديمة لمختلف المفكرين كانت تتكون من آلاف الصفحات، وما تلك الآلاف من الورق إلا مجرد تبرير لسطر واحد ملغوم مر في طرف صفحة، وهو تبذير لغوي عظيم ، وهدر لزمننا الوجودي نحن العابرون في فضاء لن نعلم أثناء وجودنا فيه إن كان هو الآخر عابرا أم قارا جاثما في زمن وجوده ، الذي لا قياس له مع تطاولنا، نحن عتاة المجتهدين في أحرف تطاوع تواصلنا دون أن نحصد الأذى أو على الأقل حتى لا نفهم خطأ، لمجرد رغبة مرور قصيرة نريدها أن تكون بردا وسلاما ليس إلا.
الخلاصة يا صديقي قال صاحبي وهو يحك عقب لفافته على المنضدة ، ألا ترى بأنه كنا سنكون غير نحن لو كانت لغتنا او كلامنا أو تواصلنا رقصا ؟ نظرت إليه بانتباه شديد لأعرف أين يريد أن يصل بكلامه، ضحك مبتهجا وقال: ألا تتفق معي في أن الرقص في التواصل كان سيكون أفضل ، على الأقل لا يحتاج إلى التأويل ولن تصدر عنه أحكام مسبقة قاسية، وكنا سنستمتع أكثر بصفاء الصمت أو ربما كنا سنسمع أشياء لا نسمعها اليوم بفعل ضجيجنا، ثم كنا ربما سنستمتع برشاقة أجسام لا نكتسبها اليوم بفعل طول لساننا اللغوي هذا، الذي يدفع مؤخرتك للجلوس أكثر كي تكون فصيحا في حكي تافه ربما أو تتبادل أطراف حديث « استمنائية» بغيرك، أكثر من هذا كنا لنحتفل بأجسادنا ونمتع أعيننا ، والأجمل كنا لنتفادى سلخ ملايير الحيوانات قديما عبر التاريخ لدبغ جلدها وجعله فسحة لأحرف كنا لنعبر عنها إما رقصا أو غيره من تعابير أخرى، وكان للرقص أن يحد مما سفك من دماء عبر الزمن من خلال كلمات قابلة للتأويل ، فمهما كانت لغة الرقص حادة، فإنها تصلك ناعمة .


الكاتب : العربي رياض

  

بتاريخ : 14/10/2023