جفاف المياه في الابداع المغربي.. «وا اسقينا!»

 

مع ندرة المياه التي نعيشها في السنوات الأخيرة وكل هذه التحذيرات القادمة من وزارة الداخلية حول هذا الموضوع، والدعوات لترشيد المياه والمحافظة عليها، تذكرت أنه في عالمنا الفني في شموليته، غناء، مسرح ، سينما.. وغيرها، لم نتعرض لهذا الموضوع، لا أتحدث هنا عن أعمال لحظية مناسباتية أو تحسيسية، بل عن عمل إبداعي بزخمه الفني، رغم أننا بلد مياه ووديان وعيون ولنا ثقافة خاصة تمتح من هذا الفيض الذي يعد منبع الحياة…
كلما أفزعني تحذير الحكومة، “تضرب” في رأسي أنشودة الكبير الحسين السلاوي، وهو يصدح بأنغام:
السانية والبير
والما جاري لالة لالة
وين اروح سامح ياعين
خرجت من الحمام بالريحية
بالمسك والعنبر فاحت يا عين
وين أروح سامح ياعين
وين اروح صبري لله
القبة خضرا بسواريها لالة لالة
عاري على سلوان وماليها
وين اروح سامح ياعين
وين أروح صبري لله
أردد هذه النغمات، هروبا من الكدر القادم المعلن من طرف الوزارات المعنية بقطاع الماء، رغم أن الأغنية ذات إيحاء غرامي، لكنها استنجدت بماء السانية والبير لترسم لنا لوحة تبلل النفس بعبق الانشراح والإقبال على الحياة، ويزداد الإحساس نشوة لما يعقبها، بخروج ذات الحسن والجمال من الحمام، أي من نقاء المياه، ويضفى على الوصف عبق رائحة المسك والعنبر ..
السلاوي من القلائل الذين وظفوا هذا العنصر الهام جدا في الحياة في إبداعاتهم الفنية، هناك أعمال أخرى في تراثنا الشعبي وظفت الماء خاصة في فن الملحون ، ولو بشكل غير مباشر في أحيان كثيرة، كما هو الحال بالنسبة لقصيدة الرعد للشاعر محمد بنسليمان الفاسي، التي يقول مطلعها:
اصاح زارني محبوبي يامس كنت صائم
شهدة قطعت وجنيت الورد قالوا كليت رمضان
مهجورك كنت ماذا لي
يا حبيب الخاطر ياك المريض يفطر
الرعد زام طباو من بعد كناطر الصمايم
والبرق سل سيفو ويخبل في خيول لمزان
والريح فارس يشالي
عن عكاب لعلفات ع الوغا مشمر
القزاح شد بندو للفرجا عساكرو تلايم
وحرك ب المطار للبيدا حتى جرات ويدان
قلبي بحبها سالي
كل فج اصبح من ذاك الضبا مخضر
وبطايح النواور تضوع منها نسايم
فصل الربيع هذا ما كيفو ف الزمان سلطان
وعلى جميع لقيالي
عبقري لابس منو دايرا موبر
مبسم الثنايا مشروح وجاد ب الغرايم
الورد والزهر ع لطيار الناشدة اصبهان
فرياض محتفل عالي
بين وردات النحلة شهدها تعمر … صور فائقة الروعة من الشاعر وهو يماثل حبور قلب العاشق الغارق في هيام المعشوقة في لحظة الوصال معها، وسرور الطبيعة بقدوم الربيع، بعد وجع طويل استقدم الغيث أي الأمطار، بعد معركة الرعد والبرق، لتستقر الأرض على الجمال والخضرة وألوان الورود .. قصيدة بنفحات الغرام استنجد صاحبها بعطاء المياه السماوية، لتقريب إحساس المتيم بالغرام تجاه الحبيبة..
في أغنيتنا أو في أعمالنا الإبداعية الحديثة برمتها، قلما كما أشرت نجد عنصر الماء حاضرا بالقوة اللازمة وكأننا نبدع من بقاع جغرافيا أخرى وليس التي يقبع إبداعنا فيها، لا أدري هل هو عدم اكتراث، أم هو استلاب مخفي غير محسوس، أم تنافس غير مدروس تاه بنا إلى اتجاهات أخرى ؟
يعجبني شخصيا قوة إصرار المبدعين الهنود، في الشاشة الكبرى، وأنت تتفرج على أعمالهم السينمائية تخرج مبعثرا في جفون عينيك وهي تلامس كل تلك الألوان المعروضة على طبقك الفرجوي، تنقل لك البساتين والجبال وألوان النباتات والألبسة والمأكولات والزخارف وحتى مساحيق الوجه والأذرع والأرجل وسط أي قصة يقدمونها، حتى خلقوا طابعا وعلامة عالمية انفردوا بها في نادي الفن السابع، وأعتقد أن المصريين لو كانت لهم مثل خصوصيتنا “لعجِبوا” بها غناء ومسرحا وسينما..
مجموعاتنا الغنائية، رغم أن خطها الغنائي انتقادي للظلم ومناصر لحقوق الناس، يرتكز على وصف المعاناة والاختلالات الاجتماعية وغالبا ما يضطرها ذلك لأن تبتعد عن المجاز والمحسنات البديعية الأدبية، لأن في العمل الانتقادي لاتكون هناك فسحة كبيرة للتوسع في هذا المجال، ومع ذلك وظفت الماء أو ما يوحي إليه للتعبير، نذكر هنا أغنية ” تغنجة” لناس الغيوان، ومعروف أن “تاغنجة” هو الطقس الذي تقوم به جل قبائلنا ومداشرنا المغربية، عندما يحل الجفاف طلبا للغيث ونزول المطر، إذ تقوم نساء القبيلة أو القرية بصنع عروس من القصب أو أغصان الأشجار المتوفر في المنطقة، ويلبسنها ملابس تقليدية غالبا تكون من الألبسة التي ترتديها نساء المنطقة، ويحملن إناء كبيرا يضعنه على رؤوسهن، ويجمعن الأطفال ويضعنهم في المقدمة، على اعتبار أن الأطفال هم مجرد ملائكة نظرا لطهارتهم من الذنوب التي يرتكبها الكبار، لذلك فتضرعهم مقبول عند الله، أما المجسم المصنوع يدويا فيرمز لعروس المطر، ينطلقون نحو الحقول وبين الدواوير متضرعين تارة ، ومرددين أهازيج تارة أخرى استدرارا للأمطار…
الطقس الضارب في عمق التاريخ المغربي، لم تفوته ناس الغيوان لأنها قبل كل شيء فرقة تهتم بالتراث المغربي، وبذكاء فني رائع وظفت عنوان الطقس لتصف بنقدها مايجري في العالم من ظلم ومفارقات رغم وفرة الخير، لذلك هي في عملها توسلت غيث تنزيل الحق والإنصاف:
العشية عشات والليل راح
محلى ب اللغات يدور مابين لملاح
والورد عطات ريحتو ياحسرة
والذات مازالا حزينة
أي رغم أن الأمطار فتحت الورود وتشبعت بها الأرض إلا أن أثرها مازال لا وقع له على الإنسان
واش الحق كفا وعطى بلدبار
واش الحق كفا من زمان
قالو عسري ساروتو ما ف الحياة
هذه شذرات من مطلع الأغنية، أما مدخلها فيبتدئ بعبارة ” وا سقينا وا روينا من بحرك خمرنا
واسقينا وا روينا من بحرك هيجنا
اه يا كريني لاغي واجه رياح مصيرك
الجوع ف الدنيا كالولي
وجثث الصبيان مرمية” إلى أن تنتهي الأغنية بخلاصة “الدنيا بالمال”…
وليكون العمل منسجما ومتناغما مع طقس “تاغنجة” الضارب في عمق التراث، وظفت ناس الغيوان إيقاعا له تقريبا نفس الحظوة التاريخية ويمتح من الصوفية وما يتخللها من تضرع للخالق، وهو الإيقاع الحمدوشي، فحمادشة بدورهم يكونون جماعات قديما ويجوبون المدارس والقرى داعين للتذكر والابتهال.
جيل جيلالة على ما أعتقد، تبقى هي الفرقة الوحيدة من بين كل الفرق أو الفنانين الآخرين التي أفردت عملا فنيا خالصا فقط للمياه والمطر، وأتحدث هنا عن أغنية ” رقصة الواد ” ، المعروفة ب ” دارت بنا الدورة ” ..
رقصة الواد أصلا هي عبارة عن طقس كان يقوم به أهالي الحوز أساسا ، عندما تأتي المياه القادمة من جبال الأطلس إلى مداشرهم وقراهم ، حيث يلج الأطفال والنساء الأحواض التي تشكلها تلك المياه التي تنم عن الخير وتعد بموسم فلاحي جيد ويرقصون وهم يرددون عبارة “اه ها ها هاهو” …
بالمناسبة جل أغانينا الشعبية تنتهي بهذه العبارة أو الجملة المغناة ، وأحيانا يرددها فنانون بعبارة ” وايه وايه واييه…”
قديما، كما يعلم الجميع ذلك، كان المغاربة يعتمدون على الرعي كعنصر معاشي أساسي، فالفلاحة لم تكن مزدهرة كما هو الحال في تاريخنا الحديث، وكان العلف ضعيفا أو غير متوفر في أماكن كثيرة لذلك كان اعتماد الرعي بحثا عن الكلأ أمرا ضروريا …بل حتميا يتطلب قطع مسافات ومسافات، التواصل بين الرعاة أحيانا كان بالرمز أو الصياح البعيد بين راعي وراع، اعتمادا على تردد الصدى ، فحينما يرى أحدهم المياه قادمة من إحدى الشعاب يخبر الآخر ، بقولة ” هاهو” ، وهكذا يعلم واحد الآخر إلى أن يصل الخبر إلى أهالي الدوار أو المدشر، لذلك في الرقصة تتم محاكاة الرعاة في تواصلهم…
جيل جيلالة ولأنها هي الأخرى تشتعل على التراث ، وظفت هذا الطقس وجمعت في قالب فني فريد المشهدين ، مشهد الرعاة في تبادلهم للخبر ومشهد أهاليهم في المدشر وهم يعانقون الماء القادم إليهم برقصة ترحيبية فرحا بكل نقطة منه ، الأغنية كتبها الشاعر الرفيع محمد شهرمان ، وأفردت لها المجموعة توزيعا موسيقيا شبيها بأعمال الأوبيريت وكأنك بصدد فرجة ولست بصدد عمل غنائي فقط ، وهذه سمة تتميز بها جيلالة ، كما هو الحال بالنسبة لأغنية ” ناديتك ف الغنة” التي أبدع فيها لمعلم مولاي عبد العزيز الطاهري كعادته أيما إبداع ، واعتقدها أغنية يجب أن تدرس في المعاهد الموسيقية والمقام هنا لا يسمح لطول شرح ، إذ لابد أن نعود لها لاحقا.
جيل جيلالة سوف لن تخرج عن موضوع الماء، لكن ستربطه بسياقه الزراعي:
دارت بنا الدورة
والنفس للي تسال مقهورة
الدمعة الهاطلة مغيورة
قولو راح الليل اه ياوين
فينك يا الناشر زرعو فوق سطح الغير
مازال تدور الدورة
وتعود الكمحة مثمورة
ومازال يعم الخير
مرسولي انا خاد زادو
وراح جوال قاصد من غاب
إلى ضاق الحال ابابا
علي محال ابابا
عندي أمل انا نفتح فجوة ونزيد
لا تغيب علينا
عود لنا واجي بالخير والسعادة
لا تغيب علينا
فاجئ لقلوب ولاقي الخليل بالخليلة
اها.. ها .. ها .. هاهو
هذه الأغنية كاد أن يجن عليها الفنان اللبناني عبدالحليم كركلا وقد سجلتها معه جيل جيلالة إلى جانب أغاني أخرى لها، في عمله الكوريغرافي الضخم “إيليسا” الذي ضم أغاني للفنان مارسيل خليفة أيضا، وقد مول هذا العمل الذي قام بتوزيعه الموسيقار عاصي الرحباني، الرئيس اللبناني الأسبق رفيق الحريري، من المفارقات أن فنانا كبيرا من لبنان يعجب بهذا العمل، وفي متحف المياه الذي شيد في مراكش بتمويل من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، تجد وأنت تتجول في أروقته كل أنواع الموسيقى العالمية إلا هذه الأغنية التي تتغنى بالموضوع، أمر مضحك مبكي ، شبيه بحال أعمالنا الفنية الكثيرة التي تبحث عن الأذن اليسرى من ناحية الرأس الأخرى، والتي لا يسعنا في هذا المقام إلا أن نقول لمدبري الشأن الإبداعي عندنا، ما كانت تقوله الصحافة الوطنية في الثمانينيات لبعض مقدمي الأخبار في تلفزتنا، وهم يحلقون بنا في أجواء أخبار نيكاراغوا والشيلي والسالفادور وجنوب جزر موريس وأدغال باكستان.. “حلو ع الشرجم وطلوا را شلا من خبار… !”
بالمناسبة حتى الفنان الكبير عبدالحليم حافظ لما احتفى بالمغرب وشعبه والملك الراحل الحسن الثاني ، استهل أغنيته ب “الماء والخضرة والوجه الحسن ” ، ” المغربية أم المروج السندسية “…


الكاتب : العربي رياض

  

بتاريخ : 05/01/2024