يساريون ضحايا جمود «لا جديد تحت الشمس» !!

 عبد السلام المساوي

   كثيرا ما يتم توجيه النقد السياسي إلى الأشخاص وإلى المؤسسات الحزبية على قاعدة نوع من المقارنة بين موقف من مواقفها الحالية، والموقف الذي يعود إلى عهد قد يصل إلى العشرات من السنين في الماضي، ومفهوم هذا المنطوق من النقد السياسي ينطوي على تثمين ضمني أو صريح لمواقف الماضي على حساب مواقف الحاضر التي يتم استنكارها وإدانتها ولو عن طريق الأسئلة أو العبارات الاستنكارية، على شاكلة هل هذا هو الشخص أو هل هذا هو الحزب الذي عرفناه في هذا الزمن أو ذاك؟  أو ليس هو الشخص الذي عرفناه في خضم المعارك السياسية في الزمن الفلاني وفِي المكان العلاني؟ فماذا جرى وكيف تخلى عن كل تلك المبادئ التي كان يناضل في سبيلها، وكان مستعدا لتقديم كل التضحيات الممكنة من أجل ذلك، أو قد يكون قدم بعضا منها بالفعل من جهة، أو ليس هذا هو حزب القيادات التاريخية والتضحيات والشهداء والمنفيين إلى غير ذلك من التضحيات في الماضي؟ فماذا الذي دهاه، وقد أصبح منبطحا، وغير ذلك من النعوت والألقاب . 

والملاحظ أن الذين يصدرون هذه الأحكام، خاصة في حق حزب سياسي ما، ليسوا من كانوا يناضلون على يسار الحزب المعني  أو يتحركون حاليا ضمن هذه المساحة، سواء انتموا إلى تنظيمات قديمة أو حديثة العهد بالعمل السياسي التنظيمي فحسب، بل يشترك هؤلاء في إصدار مثل هذه الأحكام مع أحزاب يمينية أو شخصيات لم تكن قط تنظر إلى الحزب المعني بعين الرضا، بل كانت تعتبره خصما أو عدوا ينبغي تحجيمه إلى أقصى الحدود، إن لم يكن ممكنا القضاء المبرم عليه، سياسيا وتنظيميا، ولو كان ذلك باستعداء السلطات عليه وتلفيق التهم في حقه كما جرى عدة مرات مع الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وغيره من الأحزاب والتيارات الوطنية الديمقراطية.
وبطبيعة الحال، فإن الخلل الرئيس، في مثل هذه النظرة إلى الشأن السياسي الحزبي، أعمق بكثير من قدرة البعض على الاستيعاب، ذلك أن الواقع يمتلك قوة دحض لا قبل لادعاءات وتصنيفات البعض الآخر بها، وخاصة منها تلك التي تتذرع بالجملة الثورية للتستر على حقيقة «مواقفها» مع كل ما تتضمن هذه الكلمة من التجاوز.
فهناك من لا يستطيع فهم قضية التطور والتغير في المجال السياسي وفِي مجال الثقافة السياسية خاصة. لذلك فهو بدل قراءة معطيات الواقع المتحكمة في كل تطور يطرأ على هذا المجال، ضمن المدة الزمنية الطويلة نسبيا، فإنه يصطدم بنتائج ذلك التطور ويقف مشدوها أمامها لا يكاد يتبين حقيقتها وكيف نشأت في الزمان والمكان، وكي يتحرر من هذه الحالة المفاجئة والمربكة يحاول مقارنة ما يعاينه بفترة أخرى، تعتبر بالنسبة إليه مرجعية، ليس بالمعنى الجدلي التأسيسي لأي إطار مرجعي في مجال الأنشطة البشرية، وهي تتسم بكل مقومات التطور والتغير، وإنما بالمعنى الجامد الذي ينطلق من استحالة التحول لبناء ما بعد تلك المرجعية ولينظر إلى كل جديد أو مستجد باعتباره بدعة تضاهي في ضلالها البدعة عند بعض السلفيين.
إن هذا الموقف يتضمن نفيا لحقيقة التغير والتطور، بل ويوازي خطيئة الخيانة في بعض الأحيان، حيث يتم الحكم على جل ما عرفته الممارسة على أنه انحراف ينبغي نبذه ومحاربته بكل الوسائل الممكنة لاستعادة حالة الإطار المرجعية نقية ودون شوائب تمس بنصاعتها المتخيلة وتلوث براءتها المزعومة، بطبيعة الحال.
فمن ذَا الذي يملك القدرة على الإقناع بأن معادلات الحياة السياسية الوطنية والديمقراطية في مختلف أبعادها ومستوياتها لا تختلف من حيث الجوهر، قبل أكثر من أربعة عقود من الزمن، عن معادلات واقعنا الراهن، حتى لا يبقى لدينا أي خيار  إلا موافقته على أي تحليل يقوم به للماضي والتسليم مع أنه يسري على الحاضر؟ إن هذا ليس ممكنا بالتأكيد لأنه ليس واقعا مجسدا على الأرض والمجتمع، والمنهج العلمي يقوم على التحليل الملموس للواقع الملموس، إن واقع سبعينيات القرن الماضي لا ينسحب من حيث الشكل أو المضمون على واقعنا الراهن مهما حاول المرء التساهل مع عدد من القضايا الظاهرية التي قد تدفع البعض إلى الوقوع في هذا الخطأ.
صحيح أنه لا يمكن الحديث عن القطيعة النهائية بين الواقعين خلال مدة لا تتجاوز جيلا واحدا إلا ببضع سنين، لكن هذه الاستمرارية لا يمكن أن تخفي مساحات واسعة من التغيرات الكمية والنوعية في الحياة السياسية المغربية تفرض على الجميع قراءة مخالفة للقراءات القديمة ليتم التناسب بين الواقع وتشخيصه، وليس البقاء أسير تشخيصات قد يكون لها ما يبررها في الماضي، إلا أنه لم يعد هناك ما يضفي عليها أي طابع ولو يسير من الواقعية. وليس ممكنا الآن تجاهل أن في هذا الحكم الكثير من التجاوز على اعتبار أنه مبني على افتراض التسليم جدلا أن تشخيص واقع الماضي كان سليما، وهو افتراض لا دليل على سلامته، لأن شعارات تلك المرحلة، وعلى قاعدة تلك المقاربة، لم تجد طريقها إلى التنفيذ ولو بشكل نسبي خلال كل المراحل الماضية، الأمر الذي يدل على خلل جوهري في مستوى أساسي من مستويات التقدير، قد يعود إلى المقاربة المعتمدة، كما قد يعود إلى عدم إدراك طبيعة العناصر المكونة لظرفية الماضي في أبعادها الموضوعية أو الذاتية أو هما معا.
وهذا الاحتمال الأخير هو الراجح بالنسبة لهؤلاء.
إن رجل السياسة الذي يعتمد منطق» لا جديد تحت الشمس» نفيا لمعطيات الواقع المستجدة خلال حقبة زمنية وتسويغا لمواقف وأحكام اعتقد أنها كانت صائبة في حقبة ماضية، بكل المعاني، يكشف عن اعتماده لمنطق لاهوتي قديم أو مستحدث مفاده: إن النظريات المعتمدة صالحة لكل زمان ومكان، وأن عدم تطابقها مع معطيات واقع ليس غير دليل على انحراف معتنقي تلك النظرية. وعليهم، بالتالي، العودة إليها لأنها مبدأ الإصلاح الجذري والثورة ومنتهاهما، وأن كل ما عداها انحراف عن النهج القويم كما لو أرادوا القول: إن الأصل هو إخضاع الواقع لمقتضيات النظرية وليس اختبار النظرية في ضوء مقتضيات الواقع لتعزيزها أو دحضها جزئيا أو كليا.
والغريب أن بعضا من هؤلاء يزعم، صراحة أو ضمنا، الانتماء إلى النظرية الماركسية، وهي نظرية التغيير المستمر بامتياز لاعتمادها على مبدأ التحليل الملموس للواقع الملموس، وليس إخضاع الواقع الملموس للنظريات المجردة، والتي ليست في واقعها الأصلي إلا محصلة تحليل ملموس لواقع تاريخي ملموس سمح ببلورة نظرية تفسيرية ليس ممكنا اعتبارها نهاية مطاف كل تحليل ومقاربة للواقع.
وهكذا يصبح عدد من «الثوريين» القدامى- الجدد ضحايا جمود « لا جديد تحت الشمس»، وهذه مفارقة كان يمكن، أخذا بعين الاعتبار لكل ما جرى خلال السنوات الماضية من تطورات وتغيرات سياسية ومجتمعية، تجنبها، لكن هذا هو الواقع الذي ينبغي عدم التغافل عنه في كل عملية تشخيص من أجل الفهم والتغيير معا.

الكاتب :  عبد السلام المساوي - بتاريخ : 31/01/2024

التعليقات مغلقة.