كريم عصارة: فيلم لاطروسة جاء لدحض القناعات الخاطئة

 

شريط « لاطروسة» المقلمة « لمخرجه كريم عصارة يظل في تقديري أفضل فيلم تربوي قصير تم إنجازه بجهة فاس مكناس خلال الموسم الدراسي 2023-2024. شاهدته بصفاء ذهن وعلى مزاج رائق. لماذا رشحت هذا الشريط الذي لا تتجاوز مدته 9 دقائق . لأنه ببساطة يكشف بالملموس أن التصور الإخراجي وأسلوب المعالجة الدرامية يفسران شيئا واحدا ،هو أن المخرج كريم عصارة ليس مجرد هاوي وصياد لقطات واغتنام ترصيد المشاهد التصويرية هنا وهناك . ولكنه إلى جانب كل ذلك ،باحث فني وجمالي وذ مربي على دراية بفلسفة الصورة وتأثيرها وهو إلى ذلك باعث رسائل وصاحب رؤيا ومترجم نزيه للأفكار الابتكارية المذهلة .
لن نتغافل هنا عن التراكم الفيلمي لهذا الرجل الذي لم ينطلق من فراغ .لكننا سنسرد مسار محطاته الفيلمية في مجال السينما التربوية بدء من : تضحية أب « الحاصل على المرتبة الأولى على صعيد مديرية فاس وأكاديمية الجهة . شريط «الأمل» الفائز بالمرتبة الأولى من ألمانيا في مسابقة كورونا في زمن التحولات المنظمة من طرف معهد دراما بلا حدود الدولي بألمانيا و الهيئة العربية للمسرح بدولة الإمارات العربية المتحدة . فيلم « رسالة « الحاصل على تنويه لجنة التحكيم بمهرجان العودة السينمائي الدولي بفلسطين. شريط «هاشتاج» الفائز بجائزة أفضل فيلم تربوي توجيهي في مهرجان الدار البيضاء الدولي للفيلم الروائي القصير في نسخته الرابعة ،وتنويه من مهرجان سينيمانا بسلطنة عمان .وتم عرضه في مجموعة من الدول كندا فرنسا مصر العراق سوريا تونس رومانيا …
5 «فلاكا» تنويه من مهرجان les écrans noirs بالكاميرون ،تنويه من مهرجان هوارة الدولي ،تنويه من مهرجان الدشيرة السينمائي الدولي. « ليلى» مشارك في مجموعة من المهرجانات الدولية،المهرجان المصري الأمريكي للسينما بنيويوك مهرجان السينمائي الأورو إفريقي مهرجان سيدي رحال الشاطئ مهرجان ميدلت ومجموعة من المهرجانات بالجزائر مصر و المغرب.
وإذا كان ما يشفع لهذا المخرج الواعد هو تواضعه وتعامله مع الأساتذة المستنيرين واستعانته بذوي الاختصاص في التمثيل والإبداع في مجال الكتابة واستلهام بنات الأفكار. فإن حب السينما والتربية وعلاقاته المهنية الوازنة هو ما يجعله صاحب رسالة مسؤولا واثقا الخطوات . هنا سأذهب رأسا إلى علاقته ب ذ: خالد هجلي ذ مادة الفلسفة ومدرب معتمد لمهارات التنمية . والممثل المقتدر توفيق لمعلم و الخمار لمريني فضلا عن كتاب سيناريو مجتهدين أمثال محمد بن المليح محمد مجاهد.. لكن الجميل والأبهى من هذا كله ، إدخال كوكبة من تلامذة الجهة عشاق الصورة والصوت بالمركز الثقافي سيدي محمد بن يوسف ومؤسسة جوهرة العلوم إلى خانة العشق في جمال الصورة. والانصهار في فضاء السينما التربوية حد الذوبان . تلاميذ وتلميذات لم يستطيعوا مقاومة إغراء الصورة بأبعادها الجمالية والفنية ،فانغرسوا في تربتها حتى النخاع.
لذلك ، إن الحضور السينمائي في المهرجانات والمحافل الموضوعاتية ذات الصلة وطنيا ودوليا، لا يمر دون بصمة لأحد أفلام كريم عصارة، جوائز وتقديرات وتشريفات وتكريمات تنويهات متواصلة. وفي ذلك مؤشر بالغ الأهمية في ترسيخ تجربة فنية ولدت لتمتد وتتطور . تجربة إبداعية تحصد التقديرات تلو الأخرى، وترتكم التجربة وتنآى عن الخيبات.
ويجسد فيلم» لا طروسة» رؤية المخرج الذي يرى أن الإشكال العويص الذي نراه عائقا في الممارسة التعليمية للتلميذ بالقرية يكمن في تلك الفكرة الخاطئة القائلة أن التشبث بالأرض ومساعدة الوالدين في خدمتها أفضل من الدراسة . ويذهب بعيدا في تفيد هذه الرؤية لدى بعض الآباء الذين لم يستفيدوا من حصص تعليمية في وقت ما، فيرون عن دون إدراك ، أن الفلاحة أفضل من التعلم الذي قد لا يفضي إلى شيء. غير أنهم سرعان ما يعودون لإدراكهم. ويعون الحقيقة، خاصة حينما يواجهون عقدتهم النفسية في عدم التعلم بإصرار الأبناء «. وهو الأمر الذي يسعى الفيلم جاهدا إلى إبرازه من خلال حالة البطل التلميذ عمر نجدي . الذي كاد والده الفلاح الأمي أن يحرمه من حقه في الذهاب إلى المدرسة البعيدة. وفي لحظة غضب تحت تأثير الضعف البشري الذي يحدث في العادة، سيلقي الأب بالمقلمة فتتمزق أحشاؤها على الأرض، في تحد صارخ لرفضه المدرسة وما بعدها. لكن عناد الطفل وصبر الأم وخبرتها، سيفشلان خطة الأب الذي سيعود إلى رشده. وسرعان ما سيلتحق الأب بالقسم ليؤنب ابنه للوهلة الأولى. لكنه سيبتسم علامة على الرضى. ويسلم المقلمة للأستاذة أمام أنظار التلاميذ فيبتسم الأخير في إشارة إلى عودة الوعي. لتنتصر المدرسة، ويخيب الجهل وينتكس داعموه. إن إصرار الطفل على التصدي لحرمانه من حقه في التعلم والقراءة من قبل الأسرة، هي فاتورة جهل يؤديها طفل بريء نتاج أسرة ناقصة التكوين. وهي عاهة قد تعطل النمو الذاتي والمجتمعي في القرية والمدينة، وفي بعض الأحيان، تنعكس سلبا على الحالة النفسية للتلميذ نفسه.
إن ربط السينما كنتاج إبداعي سمعي بصري بالمنظومة التربوية من قبل العديد من التجارب في قطاع التربية والتكوين، تعتبر خطوة ذات طبيعة تنموية وحضارية كما هي في الآن نفسه مطلب ثقافي استعجالي بامتياز. من هنا أهمية تجربة كريم عصارة، التفكير في خلق جسور متفاعلة بين السينما والمدرسة المغربية بكامل مكوناتها الآن وليس غدا. قد لا يسمح الوقت بالتخاذل في تعميم وترسيخ ثقافة التعامل الجدي والعقلاني مع الصورة ووسائل الإعلام داخل الفصول والأقسام الدراسية. لأن التربية على الصورة بالبيت أو داخل أسوار مراكز التفتح الفني أنجع الطرائق لمحاربة التلوث البصري والإعلامي الذي نعيشه اليوم «السينما وترسيخ ثقافة الصورة التربوية»
ولعل ما يجعل من شريط « المقلمة محاولة فنية جادة بجميع مكوناتها السينمائية « الصوت الموسيقى التصويرية المؤثرات الكادراج إدارة الممثلين هي مناقشة مجموعة من الإشكالات العميقة التي تؤثر بشكل مباشر في التعليم عموما والقروي على نحو خاص ، فتؤدي إلى الهدر المدرسي، الذي ما فتئت الجهة المعنية تضع له حدا بقصد تصحيح المنظومة وتشجيع التلميذ القروي وحفزه على المواصلة. أهمها تأكيده على حيثيات ضمن شبكة إشكالات متشعبة غابت عند الكثير ممن تطرقوا إلى موضوع السينما التربوية. وفي هذا الصدد ،يؤكد الفيلم أن اتهام الطبيعة الجغرافية وقساوة التضاريس، وابتعاد المؤسسة عن المقاييس المدنية المعتمدة سواء من حيث البنيات التحتية أو الجانب المتعلق بالتدبير الاجتماعي باعتبارهما من بين أقوى الإكراهات التي تفرمل التعليم بالعالم القروي وتسمه بالعشوائية والخروج عن نطاق المدنية أمر مجانب للصواب . لذلك فيلم «لاطروسة « لا يكتفي بتفنيد هذا الطرح فحسب، بل ويقدم بديلا تربويا ناجعا.
ويبرز «شريط لاطروسة « حالة اجتماعية صرفة مشحونة ومثقلة بالمعيش ،تتمثل في سلوك أب فلاح أمي جاهل يرى في الحياة خدمة الأرض. ولا يكترث بالمدرسة بل ويعتبرها مضيعة للوقت. لكن الأم عكس ذلك تماما، رغم أنها تتنفس نفس الهواء وتعيش نفس الظروف. فيما التلميذ يراوح ذاته والمستقبل بينهما.
ولما كانت التربية على الصورة بالبيت أو داخل أسوار المؤسسات التعليمية الشرط الوحيد لمحاربة التلوث البصري والإعلامي الذي نعيشه اليوم. فإن أنجع طريقة لتحصين الشباب وضمان شيء من التوازن الثقافي والنفسي لهم هو الاستفادة من التكنولوجيا السمعية البصرية وتسخيرها للتعليم والتعلم وتكوين المواطن المنسجم مع محيطه الثقافي والاجتماعي، فلا خير في سينما لا تساهم في النمو الثقافي والاجتماعي . كما لا خير في مدرسة لا تعير الاهتمام اللازم بكل الوسائل والتقنيات الحديثة ذات المردودية الثقافية و التربوية الناجعة .
الشريط جاء ليؤكد مسلمة آخرى هي أن كثيرا ممن طرقوا أبواب النجاح هم تلاميذ وتلميذات من المدرسة العمومية ومن القرية المغربية تحديدا . وأن الهدر المدرسي القروي ليس قدرا ، بل هو رهين أفكار خاطئة لدى بعض الآباء غير المتعلمين. في الوقت نفسه لا يغفل الشريط التنبيه إلى تشجيع التعليم في العالم القروي والدعوة إلى تحسين البنيات التحتية للمؤسسات التعليمية لفك العزلة وتخفيف العناء عن طلب العلم لدى الناشئة في المناطق النائية.
بقيت الإشارة إلى كاتب سيناريو شريط « لا طروسة» محمد مجاهد و إخراج كريم عصارة. مدير التصوير محمد الساهر. الإشراف العام محمد أزماط. المحافظة العامة أمين خولاني حسني. أداء الممثل القدير توفيق لمعلم والخمار المريني عتيقة التويمي فريد بوزيدي كوثر علمي عروسي خرازي رجاء الحلوي. ونخبة من تلامذة مؤسسة التفتح الأدبي والفني سيدي محمد بن يوسف تحت إدارة ذة إيمان أكود المتسمة بمستوى عال من الكفاءة والمهنية : عمر نجدي مها غنيفل أمال بنكيران ندى الخليفي آدم زعيط. إنتاج المديرية الإقليمية لوزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي الرياضة بفاس ومجموعة مدارس جوهرة العلوم حي جاد واد فاس.


الكاتب : عزيز باكوش

  

بتاريخ : 13/02/2024