السنة الرابعة… بعد المستقبل! 2/2

عبد الحميد جماهري

عندما رأيت المستقبل في الصين، وبعد أن عبرتني دهشته، تراءت لي فكرة زيارة التاريخ، وصار المستقبل في حد ذاته محطة مهمة لإغراء الماضي..!
فكان للماضي القريب ثلاث بدايات لتدشين العصر الحديث:
1912: مع سن يات سن وتكريس الانتصار مع الحلفاء والموقع الدولي على قاعدة الوطنية الحاسمة.
:1949 مع ماو زيدونغ، وإعلان جمهورية الصين الشعبية. وترسيخ قيم الدولة الحزب، من خلال الحزب الشيوعي الصيني.
:1978 دينغ كسياوبينغ، واستئناف السيرة العملاقة للدولة العملاقة، وتحقيق القفزة الكبرى التي طالما حلم بها الآخرون. ومن المفيد حقا أن نقف عند عودة الماضي كأفراد وإلهام، لدى دينغ كسياوبينغ كما لدى الرئيس الحالي شي جينبينغ، من جهة استلهامهما لتجربة قديمة في منتصف القرن الخامس عشر…
ولعلها مغامرة أن نعطي لشخص واحد دور التاريخ، مثل ما أفعل مع دينغ كسياو بينغ والصين، وهو الذي يعد صانع هيبتها الحالية. غير أن الرجل كانت له رؤية، وإرادة وسلطة ومهارة لهذا كان دوره في التاريخ حاسما.
ولعله أيضا أعطانا درسا مفاده أن الشعوب التي أساء إليها التاريخ، يمكنها أن تسرع وتيرته لتقبض عما انفلت منها، سَرَبًا ، من الحضارة، ومفاده كذلك أن عقدين من الزمن كافيان لتدارك التأخر عندما تتوفر مثل هذه الشخصية المحورية، ولن تكون في حاجة إلى قرون طويلة لتعلُّم الأمل، ثم الفوز، في عملية تسريع التاريخ هاته .
هذا الرجل الذي صنع الصين لا نجده بالضرورة في الكتيب الأحمر، الذي تم نشره في نهاية الستينيات باعتباره مصنفا لأقوال ماوتسي تونغ . وهو في عز الثورة الثقافية. في وقت كان كبار الدولة يخضعون للتجريم تم اقتياده إلى منطقة قروية حيث عمل في معمل لصناعة الجرارات… وقد عمل بحكمة لاووتسو :»لا تحاول الانتقام، اجلس على ضفة النهر، وسترى جثث الذين يهاجمونك«. كما ذكر أمين معلوف في الجزء الخاص به في كتاب “»متاهة التائهين “«، الذي صدر مؤخرا.
وتقول سيرته إنه عاش تحت جناح تشو اينلاي، حيث تعارفا في 1920 بفرنسا، وعمل معه في صحيفة أصدرها تحت عنوان الضوء الأحمر»، وعاد من فرنسا بدون أن يتقنها أو يختارها في الحديث، وهذا الذي سموه العائد لم يجعل من نزع الطابع الماوي عن الدولة والحزب، كما فعل غيره في الاتحاد السوفياتي بعد وفاة جوزيف استالين، أولويته أو مادة للانتقام، ولا كان العمل الأهم لديه هو القيام بتقديم الحصيلة التاريخية للعهد السابق، بل كان همه هو النحو الاقتصادي الجديد من أجل النجاعة والنجاح.
هذه الصين التي اجتمعنا تحت رايتها الحريرية كانت قد فتحت الطريق البري والبحري، لطريق الحرير:أنه بعد تفكك إمبراطورية المغول، اختار السادة الجدد من عائلة مينغ تغيير وجهة طرق القوافل الكبيرة التي تربطها بباقي العالم بعد أن أصبحت معرضة للخطر بدون الفرسان المغول الذين طردوا من الحكم، كان عليهم البحث عن أسطول لأجل طرق تحافظ عليها هي نفسها.. ففكر الأمير »زهو دي،« الولد الأصغر لمؤسس سلالة المينغ.، ثم قدر، فظهرت له فكرة الطرق البحرية عوض الطرق البرية العابرة لآسيا الوسطى .
وشاء الأمير الذي صار إمبراطور «السعادة الأبدية» في سنة 1402 لكن عجز الطبقة الحاكم أفشل المحاولة … وبالرغم من أنها كانت مجرد (فترة قوسين) فإن دينغ كيساوينغ وشي جينينغ، الرئيس الحالي، رأيا في هذه الصفحة من التاريخ،عمرها ستة قرون، نموذجا ومرجعا ومصدر استلهام، زهو دي هو الذي جعل بيكين عاصمة الشمال، وبنى المدينة المحرمة، وأعاد ترميم سور الصين العظيم. وأوكل مهمة بناء الأسطول لجنرال من أصل مسلم من بخارى، كان اسمه الأصلي «ماحي ما، كاسم عائلي للمسلمين (تصغير اسم محمد أو محمود…) أبوه «ماحي له..»تم قتله بعد طرد المغول وسبوه طفلا ثم صار من الخصيان ووضع في الخدمة ليصبح اسمه »صان باو« أو صاحب الياقوتات الثلاث«، الذي يقوم بالمهام العسكرية.
ولعله اسم سندباد: من الأسفار السبعة والبحار السبعة ومكان السرديات الخلفية التي زارها، الهند والفرس وجزيرة العرب، في ألف ليلة وليلة. لها قرابة مثيرة للحيرة مع. سيرته والقرابة اللغوية للاسمين بين صان باو وسندباد..!
ولعل طرفي طرق الحرير هما، في نازلتنا هذه، الماضي والمستقبل، كي نتخذ العربة.
كما لن أنسى أنني سمعت من المسؤولين ما يفيد أننا مازلنا في البداية، وما زلنا متخلفين،( وكتبت في الصفحة 202: اللهم ارزقنا هذا التخلف) ، ولم أكن أدري وقتها أنها وصية دينغ كسياوينغ، نفسه :» حافظوا على هدوئكم، تواضعوا، لا تتصدروا المشهد، لا تشيحوا ببصركم عن الأشياء التي مازال عليكم القيام بها« كما لو كانت، وصايا لعائلته على سرير موته، كما لو أن لسان حاله يقول: »نحن شعب فقير ومتخلف ونريد أن نتعلم أن الثأر الوحيد الذي يقبل به التاريخ هو الثأر من الجهل والفقر والإهانات».
احتفظ له بقولة أخيرة، في ما سمي جولته في الجنوب، التي جاءت وقد بدأ يبتعد عن السلطة، بالرغم من أنه قاد ثورة الانتظارات المتحققة، وهو لا برئيس الدولة ولا زعيم الحزب ولا رئيس الحكومة، حيث نبههم قائلا: »المسؤولون العاجزون عن الإصلاح يجب إقالتهم.«….

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 09/03/2024

التعليقات مغلقة.