أولياء مغاربة في مصر -12- الشيخة فاطمة: الجامعة التي خرجت أجيالا من العلماء

العلاقة التي تربط المصريين والمغاربة ،علاقة تمتد في الزمن منذ قرون،فقد تعددت أوجه هذه العلاقة كما تشهد بذلك كتب التاريخ .
ووفق المؤرخين، فقد هاجر العديد من المغاربة إلى الديار المصرية في عهد مولى إسماعيل، خاصة من فاس ومراكش، حيث استوطن أهل فاس في القاهرة، في حين استوطن أهل مراكش في الإسكندرية.
وتؤكد المصادر التاريخية، أن المغاربة الذين اختاروا مصر مقاما جديدا لهم، يعتبرون من التجار الكبار، وهناك تأقلموا مع أهل هذا البلد، فنمت تجارتهم، بل استطاعوا أن تكون لهم اليد العليا على المستوى التجاري والاقتصادي، فأصبحوا فعلا يشكلون النخبة هناك، ولهم تأثير واضح على مستوى الحكم.
تمكن المغاربة الذين اندمجوا بسرعة في المجتمع المصري،من توسيع تجارتهم، لتمتد إلى خارج مصر، وتصل إلى مكة والشام، بل بنوا حارات جديدة مازالت قائمة في مصر إلى اليوم، شاهدة على ما قدمه المغاربة من إضافة إلى وطنهم الجديد.
لم تقتصر الأيادي البيضاء للمغاربة على مصر في هذا الباب، بل ظهرت جليا على مستوى العلم والتصوف.
وكما يقال، إن كان الإسلام دخل إلى المغرب من الشرق، فإن تأثير المغاربة في المشرق جاء عن طريق علماء الصوفية.
في هذه الرحلة، نستعرض أهم أشهر المتصوفين المغاربة المدفونين في المشرق خاصة في مصر ،الذين تركوا بصمات وأتباع لمدارسهم الصوفية إلى اليوم ،حيث يستقطب هؤلاء المتصوفة المغاربة، الملايين من المريدين المصريين كل موسم.

 

التصوف المغربي تاريخ عريق ونور امتد للمشرق ومشكاة تنير طريق المسلم بعيدا عن تيارات ظلامية متطرفة، إذ عرف التصوف المغربي بكونه تصوف أخلاق لا إشراق فقط .
فالتصوف الذي يعتمد على الأخلاق،كما تقول الباحثة بشرى شاكر ،يتجاوز الإشراق الذي يقتصر على العلم والبحث الديني وإنما يذهب إلى البعد الواقعي والسلوكي بحيث ينفتح على الآخر ويتقبل الآخر ويحرم دمه حرمة الدم في الإسلام …
فبالنسبة لعلماء المغرب، ليس في الصوفية عدو، فالصوفي من صفا قلبه لله وصفت لله معاملته فصفت له كرامته، وأحبّ وتجانس مع كل الناس…
العنوان العريض الذي اتخده منذ قرون التراث الصوفي المغربي هو «لا تكره يهودياً ولا نصرانيًّا، ولكن اكره نفسك التي بين جنبَيْك» أي لا تكره أي إنسان لإنسانيته، واقرأ فيه حكمة المكوّن في أكوانه، فالإنسان من حيث هو إنسان كونٌ من أكوان الله تعالى، توجب تقبُّلَه على حاله وشكله في وجه الذي خلقه وأراده على حالته التي هو عليها، فلا يقع في ملكه سبحانه وتعالى ما لا يريد، لذلك لا تكره صنع الله في خلقه واكره نفسك التي بين جنبيك، فالنفس هي الأمارة بالسوء وهي التي تخلق لك من المشاكل ما لا يخلقه لك اليهودي ولا النصراني ولا أي عرق آخر…
طريق التصوف بالمغرب كما يرى المهتمون والدارسون لهذا الشأن، لا يؤمن بالغلو في الدين ولا بالتطرف فهو يتبع سيرة النبي الكريم الذي قال : (المسلم لين هين كالسنبلة) وقال : (المؤمن كمثل السنبلة تخر مرة وتستقيم مرة) وينهج طريق رحمته التي بعث عليها.
لذلك يلجأ العديد من الأجانب الذين يريدون معرفة الإسلام إلى الزوايا المغربية، تقول الباحثة بشرى شاكر
فرغم الهجمة على الإسلام وما ألصق به مؤخرا من تهم بسبب الجماعات المتطرفة والإرهابية فإنه وعكس ما كان متوقعاً، عرفت السنين الأخيرتين أكبر دخول للإسلام في المملكة المغربية وغالبية المسلمين الجدد يختارون فترة رمضان وفترة المواسم الدينية، لإعلان إسلامهم مباشرة في الجوامع والمساجد ولعل موسم المولى إدريس الأزهر الذي يستمر متقطعا من شهر غشت إلى شهر شتنبر وموسم الزاوية القادرية البودشيشية التي بدأت منذ القرن الخامس الهجري – وقد سُمي سيدي علي بودشيش لكونه كان يطعم الناس أيام المجاعة بالدشيشة – كفيلان بأن يعرفاننا على الكم الهائل من الأجانب الذين دخلوا الإسلام ويزورون هذه المواسم الدينية سنويا إضافة إلى بقية الزوايا التي تعرف إقبالا لهم أيضا، مثل الزاوية التيجانية والزاوية العلوية …
بالعودة إلى الأولياء الصالحين المغاربة في مصر، لم يقتصر الأمر على الرجال، بل امتد أيضا إلى النساء، مثل الشيخة الصالحة فاطمة، وهي أم عبد الكريم فاطمة بنت الشيخ أبي الحسن سعد الخير بن محمد بن سهل الأنصاري البلنسي، اصطحبها أبوها في رحلته الواسعة في المشرق وأجازها شيوخ من البغداديين والأصبهانيين والخراسانيين، تجردت للعلم والعبادة وحدثت بدمشق وبمصر ، توفيت بمصر في ثامن ربيع الأول سنة ستمائة ودفنت بصفح المقطم.
واصلَتْ فاطمةُ رَحلاتِها في طلبِ العلمِ.. فرحلتْ إلى بغدادَ، وتلقَّتْ علومَ الحديثِ على كِبارِ علمائها أمثالِ عليّ هبةُ اللهِ بنُ الحُصَيْن، وزاهر بنُ طاهر، وأبي غالِبٍ بنُ البَنّاء.
تزوجتْ فاطمةُ العالِمَ الواعِظَ زَيْنَ الدينِ بنَ نجية وأقاما في دِمَشْقَ. ذكرَ الإمامُ الذهبيُّ في “سِيَرِ أعلامِ النبلاءِ” أنَّ فاطمةَ عاشتْ في عِزٍّ وجاهٍ، إلّا أنَّها كانتْ وَفِيَّةً لطلبِ العلمِ والعَمَلِ بِهِ ونَشْرِه. شَهِدَتْ مساجِدُ دِمَشْقَ حلقاتِ فاطمةَ الدراسيةَ للعديدِ من طُلّابِ علومِ الحديثِ الشَّريفِ، وتَفَقَّهَ على يَدَيْها كَثيرٌ مِن العُلماءِ الذين صاروا من كِبارِ المُحَدِّثين، وكانوا يَفْخَرونَ أنَّ لهم مِنها إجازَةً (أي أنَّها أجازَتْ لهم تعليمَ ما قد تَلَقَّوْهُ مِنها مِن عِلْمٍ).
كانت القاهرةُ هِيَ المُستقّرَّ الأخيرَ لفاطمةَ بنتِ سعدٍ، حيثُ واصلَت التدريسَ وتَخريجَ أجيالٍ مِنَ العُلَماءِ والمُحدِّثين.. قالَ الإمامُ المُنْذِرِيُّ مُؤَلِّفُ كِتابَي “التَّرْغيبِ والتَّرْهيبِ” و”مُخْتَصَرِ صَحيحِ مُسْلِم” أنَّ شيوخَهُ الذينَ تعلَّمَ منهم، كانتْ شَيْخَتُهُم فاطمةَ بنتَ سعدِ الخيرِ.. وأضافَ أنَّ لَهُم مِنها إجازةً.. فلم يَكُن الإمامُ المنذريُّ فقط مِن طُلّابِ عِلْمِها، بل شُيوخه كذلك.
انتهتْ رحلةُ فاطمةَ بنتَ سعدِ الخيرِ بوَفاتِها في القاهرةِ سنةَ 600ه/1203م، بعدَ أنْ أمضَتْ 78 عامًا مِنَ التَّعَلُّمِ والتَّعليمِ، فكانتْ بمثابَةِ الجامعةِ التي خَرَّجَتْ أجيالاً مِنَ العُلَماءِ.


الكاتب : إعداد وتقديم: جلال كندالي

  

بتاريخ : 25/03/2024