أخلاق الغرب.. التعبير الأسمى عن الحضيض : 04 حنة آرندت: العداء بين الحقيقة والرأي

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن، غربته الكبرى بين قيم التنوير وما يتأسس عليه وجوده وهويته الحضارية. ذلك أن الغرب أصبح، مع ما جرى خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما يجري الآن في غزة، وفي أكثر من بقعة على خارطة العالم، محلَّ تساؤلٍ مريب، بالنظر إى ازدواجيته الأخلاقية هو الذي يقدم نفسه بوصفه «التعبير الأرقى عن الكمال التاريخي للبشرية». بل إن عقل الغرب، كما يقول المفكر محمود حيدر، ينظر إلى التنوع الثقافي أو الحضاري «كَقَدَرٍ مذموم لا ينبغي الركون إليه. ومن هناك جاء التغاضي عن الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب هنا وهناك، وعلى رأسها ما يجري الآن للفلسطينيين على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي المدعومة بالفيتو والسلاح الأمريكيين..

بغض النظر عن السبب، يقول لنا التاريخ إنّ الصراع بين الحقيقة والسياسة بدأ نتيجة طريقتي حياة متعارضتين تمام التعارض: حياة الفيلسوف كما أوَّلها بارمنيدس ومن بعده أفلاطون، وحياة المواطن العادي.
فالمواطنون العاديون، تقول الفيلسوفة، أصحاب آراء دائمة التغيّر حول الشؤون الإنسانية، والتي كانت ولا تزال تمر بتقلبات دائمة، وظهر ذلك للفلاسفة وكأنّه عكس الحقيقة الكامنة خلف هذه الأشياء التي ينبغي لها بطبيعتها أن تكون سرمدية ثابتة. ولذلك كان من الممكن للفيلسوف أن يشتق منها المبادئ الأولى التي يمكن لها أن تجلب الاستقرار للشؤون الإنسانية. لذا قال الفلاسفة أنّ عكس الحقيقة هو محض رأي ظنيّ لا يتجاوز كونه وهماً من الأوهام، وكانت هذه النظرة الدونية إلى «الرأي»، ما أضفى على الصراع حدّته السياسيّة؛ إذ إنّ الرأي، وليس الحقيقة هو من المستلزمات التي لا غنى عنها في جميع أنواع السلطة كما قال جيمس ماديسون: «تقوم أركان جميع أنواع الحكم على الرأي»، إذ لا يمكن لأي حاكم ولو كان أكثر الحكام استبداداً وطغياناً أن يصل إلى السلطة، ناهيك عن الاحتفاظ بها، دون دعم أشخاص ذوي آراء مشابهة لرأيه. وعلى القياس نفسه، فإنّ الزعم بوجود حقيقة مطلقة في مجال الشؤون الإنسانية لا تحتاج صحتها إلى أي دعم من قِبل آراء تضرب أساسات جميع أنواع السياسة، وكل أصناف الحكم.
وقد أوضح أفلاطون ذلك العداء بين الحقيقة والرأي بشكل أوضح (وخاصة في حوار «جورجياس ») مفسراً إياه بأنّه عداء بين ضرب من التواصل من خلال «الحوار» وهو الخطاب المناسب للحقائق الفلسفية وبين «أدبيات الخطابة » التي يستخدمها أي ديموغاجي كما نسميه اليوم لإقناع الجماهير بموقفه واتِّباعه. يمكننا أن نجد آثار هذا الصراع حتى في المراحل الأولى من حقبتنا المعاصرة، ولكننا لا نكاد نجده في عالمنا اليوم، فعلى سبيل المثال لا نزال نجد في أعمال هوبز مقولته حول «ملكتين متضادتين» هما «التعقل المتين » من ناحية البلاغة القوية» من ناحية أخرى، فبحسب ما قاله هوبز الأولى «تضرب بجذورها في مبادئ الحقيقة أمّا الثانية فتضرب جذورها في آراء الناس وأهوائهم ومصالحهم، وتلك الأخيرة متباينة وقابلة للتغيير». بعد قرن من الزمن، أي في عصر التنوير، كادت آثار الصراع تختفي وإن لم تُزل تمام الزوال، ففي فلسفة ما قبل الحداثة نجد العبارة الرائعة التي خطها الفيلسوف الألماني لسنغ: «دع كل رجل يقول ما يعتقد أنّه الحقيقة، ودعنا نسلم بالحقيقة نفسها للإله». ما تشير إليه هذه العبارة، هو أنّ الإنسان غير قادر على الوصول إلى الحقيقة وأن جميع الحقائق التي يُتوصل إليها لا تتجاوز كونها محض آراء وإن كان قصد لسنغ نفسه هو عكس ذلك تماماً، فما عناه هو أن علينا أن نشكر الإله على كوننا لا نعرف الحقيقة كاملة. لكن بعد زوال بهجة لسنغ بوجهة نظره هذه، والتي تفيد بأنه وبالنسبة إلى البشر الذين يعيشون مع بعضهم بعضاً فوجود هذا الغنى غير المتناهي من وجهات النظر الإنسانية أهم وأعمق مغزى مما تقدر أي «حقيقة واحدة» أن تُكوِّنه أصبح هذا الوعي بضعف العقل البشري وعيائه هو النظرة السائدة في القرن الثامن عشر، ولكن من دون أن يثير ذلك أي شكوى أو تفجع، ونجد ذروة التعبير عن هذا الضعف في كتاب كانط الأشهر: «نقد العقل المحض » الذي قاد فيه الفيلسوف الشهير العقل البشري ليتعرف على حدوده التي لا يمكنه أن يتجاوزها، كذلك نجد التعبير عنه في كلمات ماديسون الذي شدد أكثر من مرة على أن «عقل الإنسان مثل الإنسان نفسه خجول وحذر حين يترك لوحده، ولكنّه يحظى بمتانة وثقة متناسبتين طردياً مع عدد العقول التي يرتبط معها ». إنّ اعتبارات كهذه وليست مجرد فكرة حق الفرد في التعبير عن رأيه هي ما لعب الدور الحاسم في الصراع الناجح نسبياً والذي انتهى بإعطاء الإنسان حرية الفكر سواء في كلمته المحكِّية أم المكتوبة».


الكاتب : إعداد: سعيد منتسب

  

بتاريخ : 27/03/2024