رسالة من مكان مألوف في الجحيم… من غزّة

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

لم تصل رسائل من القيامة من قبل،وإن وصلت فإشارات دينية عمَّاسيقع،حملتها الرسالات السماوية وبشَّر بها الأنبياء. لكنغزّة،اليوم بعد الوصول إلى خطّ الوحشيةالنهائي،أصبحت “بروفة”، وتمريناً على مايمكن أن تكون عليه الإقامة في”الما بعد”. من هناكيصبح التحليل العاقل والموضوعيشبه تمرين على الحزن المضاعف،والعجز المزدوج. واللغة ذاتها تترك ما فيها من احتمالات لكيتزهر الفِكَر،وتميل إلى ما قبلها: الصمت الميتافيزيقيالذييليق بالموتى.
لهذا نصمت،كينسمع صوتاً قادماً من القيامة، بعد أن وصلت إلينا حشرجات الواقفين على شفا العدم تعتصرهم المجاعة (هكذا قالت الأمم المتحدة) وعجزُنا. نحن الذين نعرف قاموس النكبة،والهزيمة،والنكسة،والنزوح، مثلما نعرف أصابع اليد، عجزنا عن تفكيك هيروغليفية الأقدار فيوصف المجاعة التيتصيب الشرق الأوسط للمرّة الأولى.
فيا شعب الجبَّارين… آن لنا أن نشعر بالمهانة، بعد أن لمتهزمكم مليون قذيفة، ولا ألف صاروخ، وهزمكم رغيف. ونقرأ الرسالة القادمة من أهلغزّة اليوم. نكتب لكم من اليوم الخامس والستّين بعد المائتين فيتقويم القيامة، من مكان مألوف فيالجحيم، منغزّة.
لا نراود الأمل ولا نتوسّله. نحن هنا فيحاجة إلى ما هو قريبٌ من الجنون، لكيلا نتيقّن بأن الذييقعيقع فعلا. لا ننتظر الأمل. أيها العالم،لِأمرٍبسيط، لميعثر علينا الأمل بعدُوسط الأنقاض، بعد أن أتعبتنا البطولة. الآن فقطيمكن أن تشعروا بالمهانة، بعد أن أصبح الموتُجائعاًيقتات من الموتى… جوعاً. الآن فقطيمكن أن تشعروا بالمهانة: لم تهزمنا مليون قذيفة،
ولا آلاف الصواريخ… وهزمنا رغيف.ننتظرأن نسمع صوتاًيقول إن هذا أقسى (وأقصى)مايفعله الشيطان بنا فيدرك الجحيم. الربّ الرحيم لايفعل هذا. أيُّربّ شرّيرمن وراء ظهرهيرأس حفلات العذاب؟
أيها العالم!الأمر بسيط، لميعثر علينا الأمل بعدُوسط الأنقاض. ربّما لم تعُد لنا أجساد، ربّما لنا أجساديراها الآخرونلكنلا وظيفة لها لديناسوى أن تصير أرشيف آلام البشرية لديهم. كيف نضرب موعداً للموت ونحن بلا زمان، تطلع علينا الشمس كما تطلع كليوم بلا أيام نسمّيها، بلا أسماء نعطيهاللوقت.هنا النهار مليء بالليل، والأمل بلا هالة الخوف، وفزع الرُّضَّع نابع من الفؤاد نفسه سرعان مايسقط فيالابتذال. اليأس هنا علامة الحياة الأكثر جدارة من الأمل، بل هو فعل حبّ نحتاجه لنكون. إنهيعنيلنا الحرية فيأن نحاكم العالم. براءتنا تبدو لكم مقلقة، مقرفة حتى… مثل فعل البستنة تحت وابل من الجليد. ولكننا فيقلب هذا الظلاملا نملك سوى عيوننا الملأى بالنجوم، نرى الملائكة طرائد مدماة تترنّح وهيهاربة. هنا أطفالنا الرضّعيرثون الموت عند ولادتهم. فيا ضمير العالم! متى ترقى إلى حفنة أرز؟أيها الضمير أنت الذيتحابيالقاتل: هل تعرف أن كليكمايتعرف إلى الآخر عن انحطاطه الشخصي؟ لا حاجة لك لإبادة البشرية كلها،لتستيقظ أو لتنام، لا فرق. تكفيإبادة طفل واحد تحت أنظار العواصم لتكون إبادةً جامعة.
هنا من مكانٍ مألوفٍ في الجحيم… من غزّة، أطفال تيبَّست أطرافهم، رُضّع فجّرت أجسادهم،سيقضون الأبدية كلّها في البحث عن جثتهم، لكي يُبعثوا من جديد… يا إلهي! كيف سيدخلون الجنّة؟ كانوا هنا، نسمع الخرير النضَّاخ في أصواتهم، تجري تحت ألسنتهم الأنهار، لكنّ الجوع التهم حناجرهم.
يا أيها العالم! البريق الذيتراهيشبه زهرتين طار عنهما الندى، وهو ما علق من نظرات طفلةٍإلى فردَتي حذائهاوهي تحلم بخطوات إلى حديقة. الوردت ان المدهامتان من تحت الأنقاض.
يا أيها العالم! نكتب إليكمن مكان مألوف في الجحيم… من غزّة. ومن زمنبلا تقويم، زمن القيامة… نُربّي مايليق بنا في العدم، نُربّي وجود الأرض.

نشر بالعربي الجديد يوم 26 غشت 2025

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 04/09/2025