الحسيمة، المدينة الواقعة في قلب الريف المغربي والمطلة على المتوسط، لم تكن في حاجة إلى حدث مأساوي سنة 2016 كي تكشف عن تراكمات التهميش، لكنها لبست بؤس ذلك الحدث الذي تحول بصوت عال معبرا عن معاناة ممتدة لعقود. انطلقت شرارة الحراك لكنه سرعان ما تجاوز حدود الحادث ليصبح لحظة فارقة في علاقة الريف بالدولة. لم يخرج الناس بشعارات سياسية راديكالية بل خرجوا بمطالب اجتماعية واضحة: مستشفى جامعي جامعة متعددة التخصصات بنية تحتية لائقة وفرص عمل تحفظ الكرامة. مطالب بسيطة في ظاهرها لكنها عميقة الدلالة لأنها تكشف أن ساكنة الإقليم لا تريد سوى أن تكون جزءا من وطن يتسع للجميع بعدالة ومساواة. اليوم وبعد مرور ثمان سنوات يظل السؤال الجوهري معلقا: ماذا تحقق من تلك الوعود، وأي مستقبل ينتظر أبناء الحسيمة في ظل مشاريع متعثرة، هشاشة قروية، بطالة خانقة، ورمزية ناصر الزفزافي الحاضرة بقوة.
الحراك الاجتماعي:
لحظة مفصلية
الحراك بالحسيمة لم يكن وليد اللحظة بل تراكم لعقود من غياب التنمية الحقيقية. منذ عقود والريف ينظر إليه باعتباره هامشا جغرافيا وتاريخيا مع قليل من الاستثمارات وضعف كبير في البنية التحتية. لذلك عندما خرج الشباب والنساء والرجال إلى الشارع خرجوا حاملين مطالب واقعية:
الصحة: غياب مستشفى جامعي ومركز للسرطان أجبر المرضى على السفر إلى فاس أو الرباط للعلاج في رحلة معاناة مضاعفة.
التعليم: غياب جامعة متعددة التخصصات جعل آلاف الطلبة مضطرين للهجرة نحو مدن أخرى بما يرهق الأسر ويزيد من نزيف الأدمغة.
الشغل: البطالة والهجرة السرية تحولت إلى «قدر» جيل كامل في غياب أي بديل اقتصادي حقيقي.
هذه المطالب كانت في جوهرها مطالب كرامة اختزلها الحراك في شعار واحد: «نريد أن نعيش بكرامة في أرضنا».
منارة المتوسط:
بين الطموح والتعثر
جاء برنامج «الحسيمة منارة المتوسط» كرد رسمي على الحراك. بميزانية ضخمة ناهزت 6.5 مليار درهم قدم البرنامج باعتباره مشروعا متكاملا لتحويل الإقليم إلى ورش تنموي. لكن بعد سنوات من إطلاقه اتضح أن الطموح شيء والتنفيذ شيء آخر.
أعطاب الحكامة والتنزيل: تأخرات متراكمة في الأشغال بعضها تجاوز الآجال بأعوام. ضعف التنسيق بين المؤسسات الوزارية والجماعات المحلية. غياب آليات حكامة حقيقية تضمن المتابعة والمحاسبة. عدم احترام آجال الإنجاز وهو ما سجله المجلس الأعلى للحسابات في تقريره لسنة 2018.
هذه الأعطاب كانت سببا مباشرا في ما عرف بـ»الزلزال السياسي» حيث تمت إقالة وزراء ومسؤولين كبار لكن ذلك لم يغير جوهريا من واقع المشاريع.
بنايات مغلقة وشواهد صامتة: المفارقة الصادمة أن عددا من المشاريع التي أنجزت لم تفتح إلى اليوم: القرية الرياضية بآيت قمرة بملاعبها ومسبحها الأولمبي ومركزها للتكوين وهي اليوم بناية مغلقة بدل أن تكون متنفسا للشباب. مسرح الحسيمة الذي كان يفترض أن يكون فضاء ثقافيا حديثا لكنه ظل مغلقا. المتحف البحري الذي كان سيعيد الاعتبار لذاكرة البحر وثقافة المنطقة لم يفعل بعد. الجامعة متعددة التخصصات صرح قائم لم تفتح أبوابه محروم منه آلاف الطلبة.
إنها مشاريع تبنى لكنها لا تشغل وكأن الغاية كانت الصورة لا الأثر الملموس.
العالم القروي:
هشاشة بلا حدود
رغم كل ما قيل عن العدالة المجالية ظل العالم القروي بالإقليم يعيش على الهامش.
البنية الطرقية: مسالك جبلية غير معبدة تتحول إلى فخاخ في الشتاء حيث تنقطع بسبب الأمطار والثلوج.
التعليم القروي: مدارس صغيرة بلا داخليات كافية ولا نقل مدرسي ما يؤدي إلى هدر مدرسي مبكر.
الصحة القروية: مراكز صحية بلا أطباء متخصصين ولا تجهيزات أساسية مما يفرض على الساكنة التنقل إلى المدينة أو إلى مدن بعيدة.
الصحة الحضرية والخدمات الاستشفائية: رغم بناء مستشفى إقليمي بمواصفات جيدة وتجهيزه بأحدث المعدات الطبية ما زالت الخدمات الصحية تعاني من ضعف كبير بسبب غياب بعض الأطباء الاختصاصيين وعدم استقرار الكوادر الطبية. هذا الخلل يجعل المرضى يضطرون إلى السفر لمسافات طويلة نحو فاس أو الرباط لإجراء عمليات أو فحوصات متخصصة. وفي المقابل تبقى العديد من المراكز الصحية داخل الإقليم شبه مغلقة أو خارج الخدمة تماما، بسبب غياب الأطباء مما يعمق معاناة الساكنة ويجعل الحق في العلاج مجرد شعار بعيد عن الواقع.
الماء والكهرباء: رغم أرقام الربط المرتفعة (95% للماء و98.6% للكهرباء) إلا أن الانقطاعات المتكررة تجعل الحياة اليومية مرهقة. بهذا يظل القروي في الحسيمة يشعر أن التنمية التي يعلن عنها لم تصل بعد إلى عتبة منزله.
الشباب والبطالة:
مستقبل مسدود
الشباب هم الأكثر تضررا من الوضع القائم. الأرقام تكشف عن أزمة بنيوية: معدل البطالة العام بالإقليم يتجاوز 20%. بطالة الشباب بلغت 35.8% وهي من أعلى النسب وطنيا. نسبة بطالة النساء تقارب 20%. هذه الأرقام لا تعني فقط غياب الشغل بل تعني فقدان الأمل. شباب المنطقة لم يجدوا في مشاريع التنمية ما يفتح أمامهم أبواب المستقبل فكان البديل هو الهجرة الداخلية أو ركوب «قوارب الموت». وهكذا تحولت السواحل إلى نقطة عبور يائسة وصرخة صامتة ضد الفشل التنموي.
الاقتصاد المحلي:
إمكانات معطلة
رغم ما تزخر به الحسيمة من ثروات طبيعية وبحرية يظل اقتصادها هشاً ومتعثراً:
الفلاحة: تضررت من الجفاف وتفتت الملكية مع ضعف الدعم التقني.
الصيد البحري: رغم أن البحر يشكل أحد أعمدة الاقتصاد المحلي إلا أن القطاع يعيش أزمة حقيقية. فقد تراجعت عائداته بشكل واضح وتقلصت مفرغات الصيد البحري في الميناء مما أدى إلى هجرة عدد من المراكب نحو موانئ أخرى أكثر تجهيزا وأوفر إمكانات. ضعف الصناعات التحويلية وغياب البنيات المينائية المتطورة جعلا القطاع يفقد قدرته على خلق القيمة المضافة وتوفير مناصب شغل مستقرة.
السياحة: المؤهلات الطبيعية والبيئية والبحرية الكبيرة لم تترجم إلى صناعة سياحية متكاملة. فالقطاع يعاني انكماشا موسميا حيث يقتصر النشاط السياحي على فترة الصيف فقط في غياب رؤية لتثمين الموروث الطبيعي والثقافي. كما أن عدم تأهيل الشواطئ وضعف البنيات التحتية السياحية والاكتظاظ الذي تعرفه المدينة صيفا بسبب غياب رؤية للتأهيل الحضري كلها عوامل تحد من جاذبية الحسيمة. بدلا من أن تتحول إلى وجهة دائمة للسياحة الداخلية والدولية بقيت رهينة السياحة الظرفية.
النقل الجوي: يظل مطار الشريف الإدريسي عنصرا حاسما في معادلة التنمية السياحية لكنه يعاني من محدودية العرض الجوي وضعف الوجهات الدولية المباشرة. غياب خطوط جديدة نحو أوروبا والداخل المغربي يجعل الوصول إلى الحسيمة صعبا ومكلفا في حين أن فتح هذه الخطوط كان يمكن أن ينعش الاقتصاد المحلي ويضاعف من عدد الوافدين خاصة من الجالية المغربية بالخارج والسياح الأوروبيين.
بدون رؤية اقتصادية إنتاجية وتكاملية ظلت المشاريع أقرب إلى استهلاكية وصورية منها إلى منتجة وهو ما جعل التشغيل يظل هاجسا قائما ويغذي نزيف الهجرة الداخلية والخارجية.
منجزات الحكومة: بين الممكن والمحدود
لا يمكن إنكار أن الدولة بذلت جهودا بعد الحراك: تحسين بعض المحاور الطرقية وربط الحسيمة بمدن مجاورة. بناء قاعات رياضية وملاعب. رفع نسب التغطية بالماء والكهرباء. تعزيز الرحلات الجوية عبر المطار. لكن هذه الإنجازات رغم أهميتها ظلت جزئية ولم تلب جوهر المطالب: مستشفى جامعي جامعة فرص عمل.
أسئلة الشارع:
فجوة ثقة مستمرة
الشارع المحلي يطرح اليوم أسئلة مؤرقة: أين المستشفى الجامعي؟ لماذا الجامعة مغلقة؟ متى تحل أزمة البطالة والهجرة؟ متى يطوى ملف المعتقلين؟
كما تتسع دائرة الأسئلة لتشمل مدى صدقية الحكومة في توفير فرص الشغل للساكنة خاصة القاطنين في العالم القروي عبر إحداث مناطق للأنشطة الاقتصادية والتجارية وتشجيع الاستثمار وتقديم الإعفاءات الضريبية. ويطرح الشباب بدورهم مطلب توفير ملاعب القرب وفضاءات رياضية في القرى فيما تعاني الأسر القروية من استمرار معضلة التنقل المدرسي وهو ما يجعل مطلب بناء وحدات مدرسية قريبة من التجمعات السكنية وتجهيز الأقسام الداخلية وتوفير النقل المدرسي من بين أبرز القضايا التي لم تجد بعد جوابا عمليا.
الحكومة من جهتها تقدم أجوبة تبريرية لكن هذه الأجوبة لم تعد تقنع أحدا. فالناس يريدون نتائج ملموسة لا تبريرات إدارية.
ناصر الزفزافي ورمزية خطاب تشييع جنازة والده
لا يمكن مقاربة الحراك الاجتماعي بالحسيمة دون التوقف عند شخصية ناصر الزفزافي الذي برز كأحد أبرز قياداته ورموزه. اعتقل وحكم بعقوبة ثقيلة فأضحى اسمه لصيقا بمطلب إطلاق سراح المعتقلين. ورغم مرور السنوات ظلّ حضوره رمزيا في الذاكرة الجماعية لسكان الريف ليس فقط كناشط سياسي بل كصوت جسد آمال جيل كامل في العدالة والكرامة. في 04 شتنبر 2025 سمح للزفزافي بالخروج المؤقت لحضور جنازة والده على اعتبار أن إخراج السجناء لزيارة أقاربهم المرضى أو لحضور مراسيم دفن أقاربهم المتوفين هو اختصاص حصري للمندوبية العامة لإدارة السجون وفقا للمادة 218 من القانون 10.23 المتعلق بتنظيم وتدبير المؤسسات السجنية، مع ضرورة موافقة السلطات القضائية المختصة في حال تعلق الأمر بسجين احتياطي.
حيث تنص المادة :» تأذن الإدارة المكلفة بالسجون بإخراج معتقل من المؤسسة السجنية تحت الحراسة لزيارة أحد أصوله أو فروعه أو زوجته او إخوته في حالة مرض خطير او لحضور مراسيم جنازتهم، داخل النفوذ الترابي للجهة او العمالة او الإقليم الذي تقع فيه المؤسسة السجنية.
يتوقف منح الإذن على الموافقة المسبقة للسلطة القضائية المختصة إذا كان المعتقل احتياطيا.»
فكان حضوره في بيت أسرته والمسجد وبين جموع المعزين محملا بدلالات سياسية وإنسانية. فقد ألقى خطابا قصيرا ومؤثرا خلال التشييع ذكر فيه بأن الوطن هو صحراؤه وشماله شرقه وغريبه، وبأن الوطن أولا وأخيرا . كلماته لامست وجدان الحاضرين وأعادت إلى الأذهان خطاباته الأولى خلال الحراك حيث كان يؤكد أن مطالب الساكنة ليست انفصالية بل تنموية مشروعة. إن حضور الزفزافي للجنازة مثل لحظة «كسر للصمت» وجدد النقاش الوطني حول ملف المعتقلين وضرورة طي هذه الصفحة المؤلمة. فالمشهد كشف عن قوة الرمزية، فحتى وهو خلف القضبان يظل قادرا على تحريك الأسئلة الكبرى في الشارع المغربي خاصة سؤال العدالة والإنصاف. وفي قراءة نقدية فإن استمرار اعتقال رموز الحراك يبقي العلاقة بين الدولة والمجتمع رهينة بجرح لم يلتئم بينما الإفراج عنهم قد يشكل مدخلا حقيقيا لمصالحة وطنية شاملة.
أي مستقبل ينتظر
أبناء الحسيمة
المستقبل لن يبنى بالوعود بل بخطوات ملموسة: مصالحة حقيقية تبدأ بطي ملف المعتقلين. تشغيل المرافق المغلقة: القرية الرياضية المسرح الجامعة المتحف. تنمية قروية متوازنة تفك العزلة وتوفر الخدمات الأساسية. نموذج اقتصادي منتج يقوم على تثمين الفلاحة والصيد والسياحة. إشراك الشباب في صياغة القرارات التنموية.
وعموما يمكن القول إن الحسيمة بعد ثمان سنوات من الحراك لا تزال مختبرا حقيقيا لاختبار صدقية النموذج التنموي المغربي. مشاريع كبرى أنجزت ولم تفتح، شباب يعاني البطالة، قرى تعيش الهشاشة واقتصاد بلا رؤية إنتاجية. إن أي مستقبل للمنطقة يمر عبر مصالحة حقيقية بين الدولة والمجتمع قائمة على العدالة المجالية، تشغيل المشاريع الكبرى، وإعطاء الأولوية للصحة والتعليم والتشغيل. حينها فقط يمكن القول إن الحراك لم يكن لحظة عابرة بل كان بداية مسار لبناء مغرب أكثر عدلا وتوازنا.