الدولة الاجتماعية والحكومة المغربية، أي تنزيل ؟

عائشة الزكري

عرف مفهوم الدولة الاجتماعية انتشارا واسعا على مستوى النقاشات السياسية والفكرية التي عرفها المغرب منذ أن تناوله الخطاب الملكي يوم 19 أكتوبر 2020 خلال افتتاح الدورة التشريعية . فما المقصود بالدولة الاجتماعية ؟ وما هي الأسباب المختلفة التي أدت إلى طرح هذا الورش الكبير؟ ومناقشته بهذا الشكل الواسع ؟ ما هي تجلياته ؟ وما هي الأهداف الكبرى التي يرمي إلى تحقيقها في الواقع ؟ يمكن القول : إنه حينما نتمعن في نص الخطاب الملكي الذي تحدث عن هذا المفهوم ، نلمس فيه تحديدا وظيفيا فقطللدولة الاجتماعية، ولا نعثر على تحديد علمي أو إيديولوجي (باعتبار أن المفهوم ارتبط في الدراسات السوسيولوجية والاقتصادية بالجانب الإيديولوجي أكثر من غيره). من هنا نستنتج ( من خلال الخطاب الملكي دائما ) أن الدولة الاجتماعية هي تلك الضامنة للحقوق الاجتماعية الأساسية، للمواطنين والمواطنات ، خاصة الفئات المعوزة منهم. ومعنى ذلك أن دعوة جلالة الملك إلى إرساء الدولة الاجتماعية يعرب عن رغبته في تأسيس وبناء تحول عميق في دور الدولة داخل المجتمع وهذا شيء مهم جدا. لكن ما هي تجليات هذه الدولة الاجتماعية ؟ – يمكن القول إن جلالته قد حدد أربعة عناصر لهذا المشروع الاجتماعي هي بمثابة اللبنة الأساسية له ألا و هي : -1- تعميم الحماية الاجتماعية، وذلك بواسطة توسيع التغطية الصحية بحيث تصبح إجبارية وشاملة لعدد إضافي من المواطنين . -2- ضمان الولوج الشامل إلى التعويضات الأسرية، أي دعم العائلات . -3- توسيع الانخراط في نظام التقاعد لعدد كبير من العمال غير المشمولين بها . -4- تحمل الدولة لمسؤولية الحماية من المخاطر الاجتماعية وتعميم التعويض عن فقدان الشغل . لكن ما هي الأسباب الموضوعية التي أدت إلى تبني هذا المشروع الكبير من طرف جلالة الملك ؟ يمكن تلخيص هذه الأسباب في ما يلي : -1- ما كشفت عنه جائحة كوفيد 19 من تدني خطير على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والصحي والتعليمي ، وعلى مستوى الشغل، حيث كشفت هذه الجائحة عن درجة كبيرة، على مستوى هشاشة فئات اجتماعية واسعة من الفلاحين الصغار، والعمال ذوي المهن اليدوية، والقطاع غير المهيكل، والحرفيين الصغار وغيرهم . هذه النتائج أظهرت بوضوح حدود النموذج التنموي السابق وعجزه عن تحقيق التنمية . -2 – ملاحظة جلالته أن الجانب الاجتماعي في البلاد لا يواكب الجانب الاقتصادي، ولذلك أكد على ضرورة أن يقترن التقدم الاجتماعي بالتقدم الاقتصادي وتحسين ظروف عيش المواطنين. تلك هي الأسباب الكبرى التي تسببت في التوجه نحو الدولة الاجتماعية، التي تكمن مهمتها في الاهتمام بالجانب الاجتماعي للمواطنين، والتكفل بجزء كبير منه من علاج وشغل وسكن وتعليم وغير ذلك . فهل استطاعت الحكومة المغربية الحالية تنزيل هذا الورش المهم ، والقضاء على الهشاشة، أو على الأقل التقليل منها ؟ وبالتالي تحقيق الأهداف المتوخاة من وراءه ؟ -ماهي نقط الضعف التي يمكن تسجيلها في عمل الحكومة بالنسبة لهذا الورش الحيوي ؟ وما هي نقط القوة إن وجدت ؟ وما هي الصعوبات التي اعترضتها في عملها هذا ؟ سأضطر إلى تأجيل الإجابة عن هذا الأسئلة المهمة، إلى حين التطرق بالتحليل إلى الجانب السياسي – الاقتصادي في الموضوع . فكيف ذلك ؟ من البديهي أن الجانب الاجتماعي لا ينفصل عن الجانب الاقتصادي في أي عمل سياسي . من هنا فإن فعل الدولة الاجتماعي هذا مرتبط بتخطيطها الاقتصادي . بعبارة أخرى إن الدولة الاجتماعية ترتبط بشكل مباشر بتدخل الدولة في الاقتصاد حيث تعمل على توجيهه حسب تصورها الاجتماعي هذا . إذن من الناحية السياسية يمكن أن نتحدث هنا عن الاقتصاد الموجه. وحينما تدعو الدولة إلى هذا العمل وتخطط له، معنى ذلك أنها خرجت عن نهجها الليبرالي المعروف، وذلك تحت ضغط تقلبات الظروف الاجتماعية والاقتصادية الداخلية للمجتمع ، وهذا شيء إيجابي لأن الفعل السياسي هنا يصبح فعلا واقعيا متكيفا مع الظروف المستجدة ، وليس فعلا طوباويا خياليا . ومن جهة ثانية إن هذا الفعل وهذه الممارسة الاجتماعية هي محاولة للشروع في مسار محاولة تقليص الفوارق الطبقية، وهذا شيء إيجابي أيضا . ومن جهة ثالثة إن هذا المشروع هو اعتراف للدولة بمسؤوليتها تجاه التقلبات الاقتصادية داخل المجتمع . ومن جهة رابعة حينما نتمعن في هذه المبادرة نجدها مقاربة حقوقية بامتياز ، ولذلك فهي بعيدة كل البعد عن المقاربة الإحسانية مثلا ، وترتكز على رؤية شمولية، فهي تمكن الأسر الفقيرة من الدعم المباشر ، وتعمل على تعميم التغطية الصحية الإجبارية، وتحمل الدولة مسؤولية الحماية من المخاطر الاجتماعية، كما تعمل على تعميم التعويض على فقدان الشغل، وتحاول تقليص الفوارق في الولوج إلى الصحة … وغير ذلك . كل هذا يمثل تحولا كبيرا في دور الدولة بحيث تصبح الدولة الاجتماعية هنا شرطا للتنمية وليست نتيجة لها . من كل هذا نستنتج نتيجة أساسية ألا وهي : -أن مفهوم الدولة الاجتماعية بهذا التحديد وهذه المواصفات، ينتمي إلى نسق فكري سياسي معين هو المنظومة الاشتراكية وليس الليبرالية ، ذلك أن دور الدولة في المنظومة الاشتراكية يختلف كلية عن دوره عند الليبراليين . -دور الدولة في الاقتصاد من المنظور الليبرالي إن الليبرالية تعمل على عدم تدخل الدولة في الاقتصاد وعدم توجيهه، وتدعم الحرية السياسية والاجتماعية وتربطها بالحرية الاقتصادية، ومعنى ذلك أنها تدعم التنافس الاقتصادي،( كل ينتج حسب طاقته ). إذن من المنظور الليبرالي هناك علاقة عضوية بين الليبرالية الاقتصادية والليبرالية السياسية . إن الحرية هي المفهوم الأساسي الذي تتمحور حوله الليبرالية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا . إن الدولة في المفهوم الليبرالي لا تنشأ لتدافع عن الجماعة بل لتدافع عن حرية الفرد في اتباع أسلوب الحياة الذي يراه مناسبا له، ولذلك تسن القوانين التي تحفظ الحقوق والحريات الفردية وتضمن بيئة مستقرة لأفراد المجتمع أن يحققوا غاياتهم بدون تدخل الدولة . ومن جهة أخرى ترتكز سياسيا على الديموقراطية كحق لجميع المواطنين قصد المساهمة في ممارسة السلطة السياسية . -استنتاج عام : إذن إن الدولة الاجتماعية لا علاقة لها بالمنظومة الليبرالية. -دور الدولة في الاقتصاد من المنظور الاشتراكي : إن منظور المنظومة الاشتراكية إلى دور الدولة في الاقتصاد يختلف جذريا عن منظور الليبراليين ، ذلك لأن الاشتراكية قائمة أولا وقبل كل شيء، على مبدأ التضامن والتعاون بين أفراد المجتمع، وليس على التنافس الحاد الذي يحد من إمكانية الضعيف . – من هنا فالدولة الاجتماعية عند الاشتراكيين تقوم بوظائف اجتماعية حيث تتكفل، إلى جانب وظائفها الأساسية، بالإشراف على القطاعات والخدمات الاجتماعية مثل الصحة والتعليم والشغل والسكن …بهدف توفير الخدمات الاجتماعية، وضمان العيش الكريم للمواطن، وحماية الفئات الاجتماعية الهشة ، وسن قوانين لتنظيم ذلك أيضا . واضح إذن أن مفهوم الدولة الاجتماعية هنا يقوم على التدخل في الاقتصاد وتوجيهه ، وليس على الحرية الفردية، ذلك أن الاشتراكية تتهتم بالجماعة وليس بالفرد . – والآن نرجع إلى تفكيك السؤال الذي طرحناه سابقا وتركناه معلقا، ألا وهو : كيف تعاملت الحكومة المغربية مع هذا الورش الملكي ، أي الدولة الاجتماعية؟ وهل استطاعت تنزيله على أحسن وجه محققة بذلك الأهداف المطلوبة ؟ -كي نجيب عن هذا السؤال لا بد من الكشف عن هوية هذه الحكومة أولا . الجميع يعرف أن هذه الحكومة تتكون من ثلاثة أحزاب ذات توجه يميني ليبرالي . إذن تبعا للتحليل السابق لا علاقة لها سياسيا وفكريا بورش الدولة الاجتماعية، لكنها ملزمة بتنزيله لأنه ورش ملكي . من هنا سنتساءل تساؤلا استنكاريا : كيف لمن لا يؤمن بفكر معين أن ينجح في تطبيقه على أرض الواقع؟ ومعنى ذلك أن الفشل سيتسرب حتما إلى طريقها بشكل من الأشكال . هكذا واجهت هذه الحكومة مجموعة من الصعوبات لم تجد لها حلا مما أفشل هذا المشروع الحيوي . وهذه الصعوبات هي : -1- وجود الاقتصاد غير المهيكل، وتكاثر نشطائه بشكل مهول، من حرفيين ،وبائعين متجولين، وعمال موسميين وغيرهم …مع وجود صعوبة في إدماجهم ضمن المنظومة الرسمية نظرا لصعوبة فرض الاشتراكات عليهم . – وهذا الأمر تسبب في تقليص المداخيل الضريبية للدولة، وزاد من الاعتماد على التمويل العمومي المباشر ، لكون صاحب هذا الاقتصاد غير المهيكل لا يساهم ماديا، ويستفيد وحده دون الآخرين . –2-ضعف الحكامة والتنظيم الإداري، مع تشتت البرامج الاجتماعية وغياب التنسيق بين المتدخلين المؤسساتيين . – زيادة على ذلك التأخير في تفعيل السجل الاجتماعي الموحد ، الشيء الذي يعيق نجاعة تطبيق البر امج . -3- نقص في التمويل مما يعرقل عملية التطبيق، ويحمل الطبقة الوسطى عبئا ماليا زائدا، نظرا لإنهاء دعم المقاصة، مما يؤثر على قدرتها الشرائية ( زيادات ضريبية وارتفاع في الأسعار ). هذا مع عجز الصناديق الاجتماعية عن تحقيق التوازنات المالية . -بالإضافة إلى مشاكل في استخلاص الاشتراكات مع وجود حقوق معلقة (مسجلين لا يستفيدون ) . -4- تحديات ضعف البنية التحتية والخدمات، مثلا نقص حاد في التجهيزات الطبية والموارد البشرية ( الأطباء والمساعدين) مع تمركزها في المدن الكبرى بدرجة كبيرة دون الصغرى . -منافسة غير عادلة للمستشفيات العمومية، لأن هناك من لا يحصل إلا على نسبة ضعيفة من الانفاق الصحي. -5- فجوات التغطية: فهناك ملايين من المواطنين لا يزالون خارج التغطية الصحية . – هذا بالإضافة إلى تحديات خاصة بفئات الشيخوخة، والبطالة، والإعاقة والنساء . -6- تحديات أخرى : – عدم تعميم الرقمنة بالنسبة لجميع الفاعلين . – ضعف في تكوين الرأسمال البشري، وعدم تأهيله لهذه المهمة ، وبروز الحاجة لإنشاء مدارس للتكوين في الحماية الاجتماعية . -عدم جودة الخدمات: أي هناك حاجة ماسة لمراجعة معايير الجودة في القطاع الصحي . -تلك أهم العوامل التي ساهمت في عرقلة تنزيل ورش الحماية الاجتماعية في بلادنا، لأن نجاح أي مشروع اقتصادي -اجتماعي يحتاج إلى شروط واقعية، وإلى تصور واضح، وإلى أدوات ناجعة في عملية التطبيق، كما يحتاج قبل كل شيء إلى تصور سياسي إيديولوجي منسجم مع البنية الفكرية المؤسسة له . من هنا لا يمكن الحديث عن نجاح تنزيل مشروع الدولة الاجتماعية بالنسبة للحكومة المغربية الحالية .

الكاتب : عائشة الزكري - بتاريخ : 19/12/2025