عبد الله إبراهيم، رئيس أول حكومة يسارية في المغرب : استقالة بوعبيد احتجاجا على المماطلة في حل أزمة الريف -11-

عبد الله إبراهيم : تاريخ الفرص الضائعة
دخل المعترك السياسي من جهة اليسار، وخرج منه من الجهة نفسها؛ عبد الله ابراهيم، رئيس أول حكومة يسارية في المغرب، المسؤول السياسي النظيف الذي أخلص لمواقفه، والمثقف الذي جالس كبار مثقفي العالم، وساهم من موقعه كأحد رجال الحركة الوطنية في تدبير الشأن العام.
قليل من المغاربة اليوم، من يعرف هذا الرجل السياسي المحنك، الذي رحل عنا في شتنبر 2005، وقليلون يعرفون أنه كان يقود أول تجربة للأمل، وأول حكومة كانت منشغلة، حقا وصدقا، بدسترة ودمقرطة وتحديث الدولة المغربية، لكن إسقاط الحكومة على ذلك النحو المخطط له من قبل «الطابور الخامس» أجهض أمل المغاربة.
وقد ظل عبد الله ابراهيم أيقونة قيادية ذات سلطة أخلاقية وضمير سياسي واضح، غير منغمس في المساومات والدسائس وترتيبات الظل.
وقد جنحت زكية داوود، عبر مؤلفها الحديث « عبد الله إبراهيم: تاريخ الفرص الضائعة»، نحو استعراض السيرة الذاتية لواحد من إيقونات النضال السياسي بالمغرب، شخصية اجتمعت فيها صفات الثقافة الذكاء والحنكة السياسية، عبر تجميع مجموعة من أبرز الصور والبورتريهات، فضلا عن شهادات لأشخاص عاصروا عبد الله ابراهيم وتاريخه السياسي.
عرفت بداية سنة 1958، جوا مشحونا داخل حكومة «البكاي» الثانية، على المستوى السياسي خاصة مع اقتراب الانتخابات المعلنة، إذ لاحظ حزب الاستقلال أن الوعود المقدمة في فترة الاستقلال، المتعلقة بالديمقراطية لم تصغ بعد، وأن القصر يستغل الوضع جيدا، بغية التشعب في الحكم و إعادة تجديد مكانته. لقد طور محمد الخامس، استراتيجية متينة بصدد للتحكم بحزب الاستقلال الضعيف، على الرغم من الانتقادات من طرف الشباب الأتراك و الاتحاد المغربي للشغل، وأيضا المقاومين.
في نفس السياق، شجع الملك المجموعات المتنافسة، ضمن نفس الأحزاب على الظهور للعلن، في حين ان الملكية قد وضعت يديها، على جميع الوسائط الأمنية المتوفرة، وشهد شهر يوليوز من سنة 1957، تلقيب مولاي الحسن ب«وريث العرش»، وتوليه إدارة القوات الملكية بقبضة من حديد، أي ما يقرب من خمسة و ثلاثين ألف رجل، زيادة على تصرفه في مراكز الشرطة على الصعيد الوطني، وتقوية علاقاته من القياد و السلطات المحلية، ليتشابه عمليا و ضمنيا مع أي حزب آخر، ولينافس سياسيا حزب الاستقلال.
خلال هذه الفترة، اقتنع حزب الاستقلال بالإنجازات العديدة، التي ساهم في تحقيقها طيلة مشواره السياسي، من بينها إعادة السيادة الوطنية على «طرفاية» من يد الإسبان، وسحب العملة الاسبانية «لا بيسيتا» من المنطقة الشمالية، وتطبيق قانون منع ما يقرب من ثلاثة و تسعين شخصا من أملاكهم الخاصة، ممن شاركوا في التأسيس للحماية، ليشمل في أبريل 1958 تكوين هيئة مكلفة بتغريمهم، إضافة للخناق الاقتصادي و الاجتماعي، بسبب الحصيلة الزراعية المزرية لتدفع عبد الرحمان بو عبيد، وزير الاقتصاد منذ 1957، لتقديم مساعدات مالية للمتضررين.
تفشت ظاهرة البطالة بشكل كبير في المغرب، إذ تراوحت نسبتها ما بين 20 الى 50 في المئة، ما بين القرى و المدن ما أدى لتناقص في الأجور، وإغلاق العديد من المصانع بعد الأزمة مع باريس، على خلفية حدث 1956 الذي شل المساعدات الفرنسية. زادت المنافسة ما بين حزب الاستقلال الصاعد، ومنافسيه من الحركة الوطنية و الاستقلاليين، وأيضا الليبراليين والقصر، لربما ساهمت هذه المخاوف في نجاح الحزب فيما بعد. في 19 من أبريل، سعت اللجنة السياسية لحزب الاستقلال، للمطالبة بالتزام الرسمي للقصر، على مستوى 9 نقاط أساسية منها ترسيخ الاستقلال، خروج الوحدات الأجنبية وتقوية العلاقات مع دول المغرب العربي، إعادة تجديد المؤسسات الديمقراطية، التنمية الاقتصادية و الاجتماعية وحكومة متجانسة…
تأججت المشاكل في ربوع المغرب، خاصة بمنطقة الريف في ماي 1958، في حين ان المنشقين الثلاثة ومن والاهم، آمنوا بأن القصر يدعمهم كما الحال بالنسبة لتحركات القياد، بغرض التظاهر ضد إعادة الهيكلة الزراعية، ومحاولات التفريق النقابية. عملت الحكومة المغربية المؤسسة من طرف «أحمد بالفرج»، المطبق لرغبات القصر بتعيين وزراء الداخلية و الصحة و الدفاع، ليستولي الحزب في تاريخ 12 ماي 1958، على ما يقرب من 13 مقعدا وزاريا من أصل 14، حصل فيها بوعبيد على منصب وزير الزراعة، ضمن «حكومة ثالثة» استقلالية.
سعى كل من بن بركة و علال الفاسي، بالرغم من إبعادهما عن الحكومة، لتقريب الآراء و توضيحها تفاديا لأي أزمة ممكنة، بالرغم من التحاق علال بجانب الملك خلال أزمة شهر ماي، وتبعات تقسيم حزب الاستقلال لأربعة اشطر، بن بركة في الجناح الأيسر و راغبا في التمسك بتجانس الحزب، و علال في الجناح الأيمن الراغب في نفس الشيء. نشبت حول بن بركة آراء عدة، كدعمه للحرب في الجزائر،و رفضه الحالة المؤقتة للمغرب بعد الاستقلال، وبحثه عن تقوية الحكومة الحالية، و الإيفاء بالوعود نحو القصر و الشعب. غادر عبد الله ابراهيم مدينة الرباط، بالرغم من مقترحات بالفرج، فيما يخص الجمع العام للحزب، و أيضا بسبب تعرضه للعديد من التهديدات.
خلال فصل الصيف، حرم بن بركة من رئاسة الجريدة في 22 من يونيو، ليترأسها «اليزيدي» في 16 غشت، وهو اليوم الذي شهد البدء بالعمل، بقانون تغريم المساهمين في الفترة الاستعمارية، منهم تسعة حكم عليهم بالحرمان من الحقوق المدنية، الوطنية و الحجز على الممتلكات الخاصة. اشتعلت مدينة الدار البيضاء في شهر سبتمبر، بالاحتجاجات المساندة لعبد الله ابراهيم، الذي تم حجزه احتياطيا من طرف الشرطة، وما تعرض إليه من مضايقات. في حين أن الحراك الريفي لم يتوقف، وبدأ يلقي بثقله على مستوى الحكومة لامسا استقرارها البنيوي، وكذلك على العداوة المستمرة لحزب الاستقلال، لينتج عنها توالي إغلاق مكاتب الحزب على الصعيد الوطني. انتهت فترة عدم التوازن الحكومي، باستقالة بوعبيد بعد عشرة أشهر من الأزمة، لكونه لم يعد يحتمل مماطلة «بالفرج» بخصوص حراك الريف و الأطلس المتوسط، ليلتحق بركب «عبد الله ابراهيم» و «محجوب بن صديق»، وليستقيل في 25 من نوفمبر.
(يتبع)


الكاتب : ترجمة : المهدي المقدمي

  

بتاريخ : 18/05/2019

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *