في «ربيع كتماندو الأزرق*» ترجمة أحمد موسى الاقتضاءات الاستعارية ودورها في تحقيق الانسجام

ربما ينقلنا نهر النّار من القوّة إلى الفعْل بلغة واصطلاح أرسطو، كما نقل «جورج لايكوف» و»مارك جونسن» الاستعارة من الارتباط بالخيال الشّعري، والزّخرف البلاغي إلى الارتباط بالتفكير، ومختلف الأنشطة اليومية، لأن نسقنا التصوري العادي الذي يسيّر تفكيرنا، وسلوكنا له طبيعة استعارية بالأساس¹.
الاستعارة تؤدي إلى استمرار شباب اللغة ونضارتها²، وتستند على التجربة الذاتية والنظرة الخاصة إلى العالم المحيط بنا،وتصبّ البناء الاستعاري على اختلاف أنواعه في قوالب مفهومية لا تعدّ ولا تحصى؛ هي استعارات مفهومية تصورية لا نشعر بها، ولكننا «نحيا بها»، ويضطلع الجسد والمادة عموما بدور أساسي في تشكيل كثير من رؤانا في جوانب حياتنا البشرية.
تتشكل الاستعارات من مجموع الترابطات بين المجالين المصدر والهدف،إضافة إلى ما تبقى لدينا من معارف ثرية حول المصدر وعناصره التأسيسية، هذه المعارف الموسّعة تعكس فهمنا المفصّل واليومي للعالم، ويمكن للاقتضاء الاستعاري المحتمل أن يكون أقل أو أكثر، هذا الاقتضاء الذي يكون له دور كبير في الانسجام خاصة حين تشترك الاستعارة في الاقتضاء³.
قصة « المفتش» التي أبدع في ترجمتها عن الفارسية الدكتور أحمد موسى ضمن أنطولوجيا القصة الإيرانية القصيرة «ربيع كـتمــاندو الأزرق»، تؤكد حاجة القصّة كغيرها إلى الاستعارات المفهومية؛ إذ لا يمكن للقصّة أن تعيش بمنأى عنها، وقد ساهمت الاقتضاءات الاستعارية في هذه القصة في تحقيق الانسجام؛ ونشير إلى أنه يتمظهر في مستويات مختلفة؛ فهو قد يتعلق باستعارة واحدة، أو بمجموعة من الاستعارات..

ا- الانسجام داخل استعارة واحدة:
لتمثيل هذا المستوى من الانسجام نقترح النظر في استعارة»انفجر المدرّسون ضحكا» التي ترتبط بهدف الانفجار؛ إذ تكون له بداية وتطور خطي عبر مراحل وصولا إلى الهدف.
يؤكد هذا الاقتضاء الاستعاري الذي ورد في نهاية القصة على انسجامها؛ ذلك أن الاستعارة تشترك في الاقتضاء، وقد عرف»كوفيتش» الاقتضاءات بكونها العناصر الاستعارية التي تنشأ عن المعارف الثرية التي يملكها الناس بخصوص عناصر المجالات المصدر، وعندما تحمل هذه المعارف من المجال المصدر إلى المجال الهدف، فإننا نحصل على عناصر استعارية»4.
في استعارة «انفجر المدرسون ضحكا» التي تَوجّت مسار قصة «المفتش» يعتبر ارتباط الانفجار بخط زمني، عنصرا تأسيسيا للمجال المصدر، وهو ينسجم وضحكَ المدرسين، الذي عَرف بدوره خطا تصاعديا حتى وصل إلى ذروته؛ حين أخبر الناظر الأساتذة بقدوم مفتش رسمي يوم السبت، بعدما سبق و أخطأ التقدير معتقدا أن الوافد الجديد/ أستاذَ الفصل الرابع مفتشٌّ، مما جعل الجميع ينفجر ضحكا ساخرا منه.
ومن أمثلة انسجام الاستعارة الواحدة؛ استعارة» أغارت الريح» التي ترتبط بهدف الإغارة؛ الذي تكون له كذلك بداية وتطور خطي عبر مراحل وصولا إلى الهدف.
الاقتضاء الاستعاري « أغارت الريح» له دور في بناء انسجام هذا النص، إذ جاء في خضم الاستعدادات لاستقبال المفتش، التي تزامنت وهبوب رياح عاتية لا تخضع للقوانين البشرية، ولم يستطع الناظر توجيهها والسيطرة عليها في انتظار قدوم المفتش، ويعتبر ارتباط الإغارة بمسار عنصرا تأسيسيا للمجال المصدر، وهو يوافق سطوة الريح التي لم تهبَّ إلا حين استعدت المدرسة بكل مكوناتها لمواجهة أي وافد جديد، وإن كان الرّيحَ نفسَها .

ب- الانسجام داخل الاستعارات الكبرى:
هذا النوع من الاستعارات الكبرى(megametaphors) لم يشر إليه «لايكوف» أو «تورنر» في أعمالهما ولكن أخذه « كوفيتش» عن بول ويرت (PAUL WERTH) ، ملاحظا أن بعض الاستعارات وضعية كانت أم جديدة من الممكن أن تسري على النصوص الأدبية بأكملها من دون « تسطيح» بالضرورة، ما نجده في المستوى السطحي للنص الأدبي هي استعارات صغرى (micrometaphors) مخصوصة،ولكن الاستعارات المندرجة خلفها هي استعارات كبرى ،و هي ما يصنع انسجام استعارات السطح الصغرى5، ومن أمثلته في القصة ما يلي:
«تهتز الورود وتحرك رؤوسها بفتور»
«تحرك رؤوسها فاقدة أي رونق وحياة»
«تهز رؤوسها على عجل»
«رمق الورودَ الصفراء وكأنها أصيبت باليرقان»
ترتبط هذه الاستعارة الموسّعة أو الكبرى التي تمتد على طول مساحة القصة بأكملها بهدف التحرك والاهتزاز، الذي له بداية ومسار خطي عبر مراحل وصولا إلى الهدف، وهو مسار موازٍ لمسار الأطر التربوية والناظر والطلاب والبوّاب الذين كانت رؤوسهم جميعا مشرئبة تتحرك في انتظار قدوم الوافد الجديد، وشاركتها في ذلك ورود المدرسة،التي كانت تترقّب بدورها من النافذة حضور المفتش، هذا الترقب الذي كان فاترا في البداية، ثم اشتعل، وخبا في آخر هذه القصة.

ج- الاستعارة والانسجام الثقافي:
تنسجم القيم الأكثر جوهرية في ثقافة ما مع البنية الاستعارية لتصوراتها الأكثر أساسية، لننظر إلى بعض القيم الثقافية المشتركة، والتي تنسجم مع استعارات التفضية6، التي يضطلع فيها الجسد بدور مركزي في بناء المعاني اللغوية،وبصفة خاصة المعاني الاستعارية، ومنها أمثلة الاستعارات التي يهيمن فيها البعد العمودي في هذه القصة:
«الى الدرك الاسفل من النار»
«مختنقون تحت وطأة الزي الموحد»
استعارة «إلى الدرك الأسفل من النار» تنسجم مع قيمنا وثقافتنا الجمْعِيَيْنِ،وهي تنتمي إلى استعارة «الصحو والحياة فوق والمرض والموت تحت»7، وقد استعملها الناظر بعدما اكتشف أن من استقبله أستاذٌ وليس مفتشا، وفي وعيه هذه التراتبية التي تشترك فيها كل الثقافات الإنسانية، كما يوضح ذلك هذا الرسم:
الوافد الجديد/ المفتش: أعلى(حياة / الجنة)
أسفل (موت) الأستاذ: في الدرك الأسفل( النار).
فالناظر ينظر إلى الأستاذ نظرة دونية، جعلته يتمنى له الموت و الجحيم؛ وخير دليل على ذلك أنه عامله في البداية باحترام كبير، لكن حينما اكتشف أنه مدرس حطّ من شأنه.
أما الاستعارة الثانية « مختنقون تحت وطأة الزيّ الموحد»، فتشير كذلك الى استعارة البعد العمودي» الهيمنة والقوة فوق والخضوع والضعف تحت»؛ فالمدرسة برمّتها خضعت تحت إمرة الناظر في غياب مديرها، وفي مقدمة من مورست عليهم هذه الهيمنة المتعلمون، الذين اختنقوا من كثرة الضغط الممارس عليهم استعدادا لاستقبال المفتش. فالطلاب شعروا بالضيق لأن هذا الضغط الذي يعيشون تحت وطأته، لم يعتادوا عليه من قبل، لذلك شعروا بالاختناق.
وبالموازاة مع ذلك، هناك استعارات البعد الأمامي ، ويتجلى هذا البعد في تصورنا للزمن كما يلي: «الماضي» في الوراء، و»المستقبل» في الأمام، ويلاحظ أن مصطلحي» الماضي» و»المستقبل» مصطلحان استعاريان يعكسان تصورنا الحركي للزمن ؛ ومن أمثلة ذلك في القصة:
«بعد مرور أسبوعين»
كأن هذين الأسبوعين يمضيان (عنّا ) ونقف نحن القراءَ لنستقبلهما، الزمن هنا كيان يتحرك صوبنا ويخترقنا في حركته، والمستقبل كذلك يتحرك في اتجاهنا، فنستقبله، ويمضي مخترقا إيانا قبل وصوله إلينا8. وهذه النظرة للزمن تشترك فيها جميع الثقافات، مما يعطي للنص معنى كليا ومنسجما يتجاوز المحلية.

د- الانسجام داخل الاستعارات المركبة:
تنشأ الاستعارات المركبة من الاستعارات الابتدائية التي تتأسس مباشرة في التجربة اليومية التي تربط تجربتنا الحس-حركية بمجال أحكامنا الذاتية؛ على سبيل المثال؛ نحن نملك الاستعارة التصورية الابتدائية
«المحبة دفء» لأن تجاربنا المبكرة للمحبة توافق التجربة الفيزيائية للدفء أثناء عناق وثيق9؛ ومن أمثلة هذه
الاستعارات في القصة:
«ألقى تحية طويلة وحارة»
فتجربتنا المبكّرة للتحية تنسجم والتجربة الفيزيائية للحرارة أثناء تصافح طويل، الذي لا يكون إلا إذا كان المصافَحُ عزيزا ومحترما، وهو في هذه القصة الوافدُ الجديدُ، الذي ظنّه الناظر- بالخطإ – مفتشا، فاستقبله بحرارة ، وفي هذه الاستعارة ترابط ساهم بدوره في تحقيق انسجام القصة ؛ ومن أمثلته كذلك في القصة:
يكن احتراما كبيرا»، «طلعته القذرة»، «وجود شيء خانق ونجس»
من خلال هذه الأمثلة يتضح لنا أن هناك ترابطاتٍ جزئيّةً بين المصدرين(المفتش- الوافد الجديد) والأهداف(الكِبَر- القذارة – النّجاسة) في كل استعارة، وهو ما يولِّد الانسجام داخل النص؛فلأن الناظر أعلى رتبة من الأستاذ/ الوافدِ الجديدِ، كنَّله احتراما كبيرا، ولأن الناظر انتظر كثيرا قدوم المفتش، وسهر على استقباله مبكرا ولم يأتِ، فقد نفر منه، كما ينفر الإنسان من النجاسة والقذارة.
ه- التشخيص:
ربما تكون الاستعارات الأنطولوجية الأبدهُ هي تلك الاستعارات التي نخصّص فيها الشيء الفيزيائي كما لوكان شخصا، وهذه الاستعارات تسمح لنا بفهم عدد كبير ومتنوّع من التجارب المتعلقة بكيانات غير بشرية
عن طريق الحوافز والخصائص والأنشطة البشرية10؛ ومن أمثلتها في النص:
«شاءت الأقدار»
«كل شيء يسير وفق نظام إلا الطبيعة فإنها عمياء»
«الطبيعة منضبطة»،» كل شيء منضبط»
«الشؤون التربوية تسير بشكل طبيعي و بلا تعثر»
«الأشجار عارية ولم تكن مكسوة»
استطاعت القصة أن تُمَفْهِمَ مجموعة من الظواهر في هذا العالم(القدر، الطبيعة، المكان، الشؤون التربوية، الأشجار..) عن طريق ما هو بشري، اعتمادا على أهدافنا ومحفزاتنا وأنشطتنا وخصائصنا؛ فالنظر إلى شيئين مجرّدين مثل « القدر و الشؤون التربوية» عن طريق ماهوبشري له سلطة تشكل بالنسبة إلينا الوسيلة الوحيدة لإعطائهما معنى، وكذلك الأشياء المحسوسة مثل؛ «الطبيعة و المكان والأشجار» التي لولا مَفْهَمَتُهَا لما كان لها معنى، لذلك يمكننا أن نعتبر التشخيص اقتضاء استعاريا كذلك، لامناصّ من اللجوء إليه.
إن توارد الاستعارات بكثرة في القصىة يحرّض على قراءتها أكثر من مرّة، إنها تعطي تمثيلا لأفكار الكاتب وتبني خلفية مشتركة لجميع الناس في مواقفهم المختلفة، باختلاف الزمن والمكان11،و يمكن للاستعارات أن تستخدم لتوضيح الأفكار،وتبليغها بطريقة أفضلَ من التلفظ الصّريح بها، وتساهمَ في انسجام النص وترابطه ، لاسيّما حين تكون الاقتضاءات الاستعارية المحتملة مشتركة بين المصدر والهدف، وهذا ما استطعنا أن نبيّنه من خلال الأمثلة الشارحة، التي أكدت لنا بجلاء أهمية الاستعارة التصورية باختلاف أنواعها في فهم النص بشكل شامل ومتماسك.

الهوامش:
¹ -جورج لايكوف، مارك جونسن(الاستعارات التي نحيا بها) تر. عبد المجيد جحفة ، دار توبقال للنشر،ص21.
²- رجاء عيد (فلسفة البلاغة بين التقنية والتطور) منشأة المعارف الاسكندرية،ص 157.
³ – عمر بندحمان ( نظرية الاستعارة التصورية والخطاب الأدبي) رؤية للنشر والتوزيع، ص87.
*- «ربيع كتماندو الأزرق» ، أنطولوجيا القصة الإيرانية الحديثة، ترجمة الدكتور أحمد موسى عن الفارسية.
4- عمر بندحمان( المرجع نفسه)، ص120.
5- عبد المجيد جحفة(دراسات دلالية في اللغة العربية)، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى 2018، ص158.
6- جورج لايكوف، مارك جونسن(المرجع نفسه)،ص41.
7- عبد المجيد جحفة(دراسات دلالية في اللغة العربية)، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى 2018، ص158.
8- عمر بندحمان (المرجع نفسه) ص269-268
9- عمر بندحمان (المرجع نفسه)، ص87.
10- جورج لايكوف ومارك جونسن ( المرجع نفسه)،ص53.
11- عمر بندحمان( المرجع نفسه)، ص128

لائحة المراجع:
¹- بندحمان عمر ( نظرية الاستعارة التصورية والخطاب الأدبي) رؤية للنشر والتوزيع.
²-جحفة عبد المجيد (دراسات دلالية في اللغة العربية)، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى.
³- عيد رجاء (فلسفة البلاغة بين التقنية والتطور) منشأة المعارف الاسكندرية.
4- لايكوف جورج ، جونسن مارك (الاستعارات التي نحيا بها) تر. جحفة عبد المجيد ، دار توبقال للنشر.


الكاتب : بوشعيب العصبي

  

بتاريخ : 11/01/2019

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

«هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟» مجموعة قصصية جديدة   «هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟»هي المجموعة القصصية الثالثة لمحمد برادة، بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *