في كتابه الأخير «العقاب» للطاهر بنجلون الكتابة بين مواجهة الماضي وتضميد جراحه

وأخيرا يفرج الطاهر بن جلون عن حلقة مؤلمة من حياته في عمله الجديد الذي عنونه بــــ»العقاب».

في المقابلة التي أجراها معه مؤخرا قسم المكتبة الفرنكفونية لإذاعة «فرانس أنتيرن» بمناسبة صدور هذا الكتاب، يعترف المؤلف أنه انتظر لمدة شهور طويلة قبل أن يروي وقائعه؛ لأنه كان يعتبرها أمرا حميميا للغاية ومسألة شخصية آثر أن يحتفظ بها لنفسه، لكنه الآن وهو في عقده السبعين، أصبح قادرا على سرد ما كابده في العشرين من عمره. ورغم مرور نصف قرن من الانتظار، لا تزال ذاكرته خصبة تحتفظ بما عاشه من محنة ورعب. وهو إذ يسترجع صفحات هذه الفترة، فإنه يسترجعها كما هي، بتفاصيلها وبالأسماء الحقيقية لشخوصها وأمكنتها وأزمنتها. وعن هذه الواقعية في سرد أحداث المرحلة المذكورة، يقول المؤلف في الحوار الذي أجراه معه موقع دار النشر غاليمار» اتخذت قرارا أدبيا بأن أحكي ما جرى في زمن الحاضر بطريقة واقعية بلا رتوشات أو محسنات. وأن أرويها كما حدثت في وقتها، يوما بيوم،. دون أن يكون لنا أدنى علم بما سيصيبنا في اليوم الموالي».
تبدأ رحلة السارد نحو الكوابيس والمجهول يوم 16 يوليوز سنة 1966 أي بعد سنة من مشاركته في مظاهرات السنة السابقة. ففي صبيحة هذا اليوم، الذي سيظل محفورا في ذاكرته إلى الأبد، زاره في بيته جنديان ليتم استدعاؤه أمام أمه ووالده للحضور إلى معسكر الحاجب. يقول واصفا جو الإهانة والفزع الذي عاشه آنذاك: «أوامر تطلق نار شتائم من نوع «سنربيه ابن الزانية هذا». محرك سيارة الجيب العسكرية ينفث دخانا لا يطاق. إنها الحقبة التي كان المرء يعيش فيها خائفا ويتحدث بصوت خافت خوفا من الجدران…..قبل أن يغادر الجنديان قال أحدهما لأبي»يجب على ابنك أن يحضر غدا إلى معسكر الحاجب. هذا أمر الجنرال. ها هي ذي تذكرة القطار في الدرجة الثالثة. من مصلحته أن لا يتخلف عن الحضور».
لا يكتفي الكاتب بالوصف الخارجي فحسب، وإنما يمزجه بالوصف الداخلي ليجعل القارئ يشاركه مشاعر الراوي. «منذ هذا اليوم تغيبت الكلمات، ولم تبق سوى نظرات فارغة وعيون منخفضة. أياد قذرة تنزع من أم ولدها الذي لم ينه بعد عامه العشرين».
الكتاب في الواقع سيرة ذاتية توثق بشكل دقيق ومفصل لتجربة الاعتقال التي تعرض لها مؤلف «العقاب» في ما يعرف بسنوات الرصاص.
يروي هذا العمل الصادر عن دار غاليمار الفرنسية الشهر الماضي، والذي يضم بين دفتيه 160 صفحة، الأيام الحالكة لأربعة وتسعين طالبا تم اعتقالهم على إثر مشاركتهم في المظاهرات الطلابية التي شهدتها الدار البيضاء ثم الرباط، في مارس 1965، إذ أُلقي عليهم القبض وأُرسلوا تحت غطاء القيام بالخدمة العسكرية إلى مخيم تأديبي للجيش في الحاجب؛ حيث تعرضوا للإذلال والتعذيب وسوء المعاملة بكل الوسائل من قبل فئة من الجنود يصفهم الكاتب بالأميين، الأغبياء، والمتوحشين، الذين يكرهون الكتابة، والثقافة.
استمر هذا العقاب النفسي والجسدي تسعة عشر شهرا يسردها الراوي -الذي كان واحدا منهم – عن كثب، مبرزا تأثيرها في ضمير ووجدان شاب في العشرين عاما من عمره، وجد نفسه فجأة داخل ثكنة عسكرية يديرها شخص غاشم من أسوأ فصيلة. هكذا انهارت حياته العاطفية وشغفه الفني والأدبي دفعة واحدة. وهكذا أيضا ضاع أمله في الزواج من «زاينة» الفتاة التي تعرف إليها في المكتبة الفرنسية بطنجة وهام في عشقها إلى حد الجنون. لقد تعطل- بالنسبة له- منطق الأشياء، واختفى الحد الفاصل بين المعقول واللامعقـول.»الكراسي صارت مثبتة في السقف والأرائك تحتل مكان المرايا» إنه الطريق الملعون نحو تشويه الواقع وتجريد المرء من إنسانيته.
في هكذا ظروف يقول الطاهر بن جلون يصبح المرء كاتبا. لقد شرع الراوي في الكتابة حين كان يتلقى العلاج في المستشفى. يقول في هذا السياق» أكتب نصوصي الأولى على ورق الوصفات الطبية «. كان يكتب من أجل أن يضمد شبابه المحطم بالكلمات. لا شيء كان يواسيه عدا رواية عوليس لجيمس جويس. الرواية الوحيدة التي كانت بحوزته.


الكاتب : محمد حجي محمد

  

بتاريخ : 12/03/2018