إقــــــــلاع

لأسباب يعتبرها شخصية جدا ولا تخص أحدا سواه، قرر الإقلاع عن التدخين..وفي طريقه إلى مقهاه المعتاد، اقتنى ثلاث سجائر من بائعها بالتقسيط، بطبيعة الحال سيدخل قراره حيز التنفيذ مباشرة بعد تحويل السجائر التي بين يديه إلى أعقاب..
جلس في مكانه المفضل داخل ركن صغير ومنزو لا يسع إلا لطاولتين، لكنه منفتح على الشارع من خلال الزجاج، والمقهى شبه فارغ في هذا الصباح الشتوي، يدخل زبناء يتناولون فطورهم على وجه العجلة ويغادرون في اتجاه مقرات العمل أو لقضاء مآربهم..
نظر صوب الفنجان فكان نصف فارغ، ثم رفع رأسه عاليا كما هي عادته دوما حينما ينفث الدخان، ليظل يتبعه وهو ينتشر عبر فضاء هذا الركن من المقهى، كثيرون استفسروه عن الغاية من هذه الطريقة دون أن يجد لهم جوابا، عدا أنها حركة لا شعورية في الغالب..
تذكر فجأة الطاولة الفارغة على يساره، هي كذلك منذ مدة، غادرتها التي كانت مواظبة على الجلوس بها زهاء الساعتين من كل صباح، فتاة متوسطة القامة يقترب عمرها من العقد الثاني ويميل لون بشرتها إلى السمرة، قبل أن تأخذ مكانها تهمس له وبصوت لا يسمعه غيره:
– Bonjour..
وهو يرفع بصره جهتها مبتسما ومتفحصا زيها وزينتها، يكون عطرها الذي لا تبدله إلا لماما، قد اقتحم خياشيمه وعم فضاء المقهى لبرهة من الزمن، وقبل أن يضع لها النادل فنجان قهوتها تكون قد أخرجت من حقيبتها نظارتها الطبية، قلم رصاص وكتابا تفتحه وتتيه عبر سطوره للتو، وهي تحتسي قهوتها من حين لآخر، تقرأ كتبا باللغة الفرنسية ذات الحجم الصغير أو المتوسط من صنف روايات الجيب.. كان أحد أصدقائه يقول له إن من يشعر عادة بالوحدة يتضاعف إحساسه بها خلال فصل الشتاء، كما هو حاله الآن، يفكر في الغائبة عن المقهى، وفي تسرعه حينما عبر لها عن إعجابه وعن نيته في الارتباط بها، وختم طلبه، كما هو معتاد دوما في مواقف كهذه، بأن رفضها لن يغير في الأمر شيئا، وبأنهما سيظلان كما كانا، في حدود تبادل تحايا الصباح:
– Bonjour..
– Bonjour..
طوى الورقة وسلمها إياها عندما كانت تستعد لمغادرة المقهى، أخذتها منه وانسحبت دون أن تقول شيئا، ولا هو قال شيئا كذلك.. لكنها لم تحضر في الغد..وكذلك لم تحضر منذ أسبوعين..
وها هو الآن، والسيجارة الثالثة والأخيرة بين أصبعيه، أخذ يقنع نفسه كأنه لا ينتظر أحدا، لولا أن استنشقت أنفاسه عطرا نسائيا مألوفا لديه، التفت فكانت تقف خلفه، هي الحاضرة / الغائبة منذ خمسة عشر يوما، وكعادتها همست بصوت لم يسمعه أحد غيره:
– Bonjour..
ثم أعقبتها بعبارة أخرى هذه المرة:
– Es-que je peux m’asseoir ?..
أومأ لها بحركة من يده اليسرى وكان يضغط بأصابع يده اليمنى في المنفضة على عقب السيجارة، فتتبعت الحركة بعينيها بشكل أثار استغرابه، حتى خالها تعرف شيئا عن قراره، وقبل أن يدعوها لِما ترغب في تناوله ، كان النادل قد أحضر فنجان قهوتها المعهودة، وضعه على الطاولة وهو يبتسم في وجهيهما ابتسامة بدت ماكرة.. وضعت يدها أسفل ذقنها ووجهت نظرها صوبه كأنها تكتشفه لأول مرة وخاطبته بلكنة ساخرة لكنها مؤدبة:
– أتريد الرد كتابيا على طريقتك أنت ؟ أم شفهيا مباشرا كما أحب أنا ؟
ظل يحملق فيها دون أن يفتح فمه، فواصلت : – أعترف أنني لا أعرف عنك شيئا، والأكيد أنك تجهل عني أشياء، لذلك ظللت طيلة هذه المدة التي تغيبتها عن المقهى في صراع مع نفسي، هل أستفسر عن من تكون قبل أن أتخذ قرارا في ما طالبتني به ؟ أم أكتفي بشعوري اتجاهك وأنت قريب مني في فضائنا هذا ؟ فكانت الغلبة للرأي الثاني.. ابتلع ريقه وهو ينصت إليها، فاسترسلت : – ولأكون صريحة أكثر، إن هناك سببا مباشرا وراء موافقتي على طلبك.. صمتت فجأة، وتركته هو في حيص بيص، إذ سافرت بخيالها إلى فترات مراهقتها الأولى، حينما كانت قريناتها ينجذبن للوسيم و الفاره الطول من الجنس الآخر، في حين كانت هي تموت ولها ومن النظرة الأولى، في كل شخص يتقن إمساك السيجارة ويدخنها بأسلوب مميز..
عندما طال صمتها نقر على الطاولة، فنظرت إليه مبتسمة بطريقة أشعرته كأنه يعرفها منذ زمن، ثم تابعت :
– إن لك أيها السيد/النكرة طريقة غريبة في التدخين، أثارتني أول يوم جلست قربك في هذا الركن من المقهى، وهي ذاتها التي حفزتني لقبول عرضك الآن..
عندما سكتت لم ينبس هو بحرف..
حول نظره بذهول تجاه منفضة السجائر..
لكن صمته طال…


الكاتب : عبد الحق السلموتي

  

بتاريخ : 08/06/2018

أخبار مرتبطة

  رن الهاتف ، كنت في الحمام مستمرئا الدوش الفاتر، تلففت بفوطة، شربت كوبا من محلول عشبة اللويزة، موطئا لنوم

  جلست على شاطئ الحيرة أسكب المعاناة على الورق، وأشكل أمواج الغضب، تطاردها الجروح ويرافقها السؤال واحد يدعي الحضور! على

الحياة التي نحارب من أجلها… الحياة التي نمارسها أمام العلن… والحياة التي نتمنى أن نعيشها… لا علاقة لها بما نعيش

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *