التشكيلية المغربية سمية حكم  لوحة بدون فراغ

تعتبر الفنانة التشكيلية المغربية العصامية سمية حكم  واحدة من الأسماء التي استطاعت ان تثبت تميزها، وتخرج إلى العلن  بأعمال في المستوى من ناحية الشكل، والمضمون، قلما نظيرها، تنم عن موهبة كبيرة منذ الطفولة حين كانت الصور تملأ كراساتها المدرسية، وقد قامت بصقلها في ظرف وجيز عن طريق الاحتكاك مع فنانين أجانب كبار ومغاربة، لهم باع طويل في مجال الرسم  والإبداع،من قبيل الأستاذ الكبير سعيد قضاض الذي ساعدها بسخاء،ومنحها الكثير من معارفه وتجاربه،كانت بالنسبة لها بمثابة آليات وأدوات  مثالية فتحت أمامها الأبواب على مصراعيها لتلج منها ،وعن طواعية،  إلى عوالم الفن الراقي،حيث مدارس مختلفة  تجعل الألوان تأخذ محلها من الإعراب في التعبير. وقد كان تأثيره يطفو، ولو باحتشام، على أعمالها،خاصة تلك التي أنجزتها في بداية مشوارها، لكن سرعان ما أخذت تأخذ مكانتها، وتفرض شخصيتها الفنية بفضل أسلوب يتأرجح بين ماهو تجريدي محض وتشكيلي صرف، يعطي أهمية للصورة ، مكنها من التعريج غير بعيد عن الواقع من خلال رسومات تأخذ رونقها من جمال مدينتها الرباط، وحدائقها البديعة، وتستمد متانتها وصلابتها من أسوارها العتيقة.
إن الحديث عن هذه المبدعة يجرنا حتما إلى استحضار لوحة أخرجتها إلى الوجود، وقامت بعرضها سابقا،ومنذ مدة، لكنها بقيت راسخة في الأذهان لما تحمله بين أركانها من إثارة، وما تزخر به من إشارات وتلميحات غير مبهمة، تجعل منها جزءا من  حكاية طويلة، مفعمة بأسرار لا تخرج خارج  بناية قديمة، تشكل الموضوع الرئيسي والحلقة المهمة في العمل، والتي أرادتها الفنانة أن تكون موصدة بإتقان بواسطة باب يمنع حتى الضوء من الاختراق والولوج إلى الداخل، مما يخلق صراعا لا ينتهي بين العتمة والنور، تشير إليه بوضوح ألوان حارة وباردة، تخلق تناغما يتوغل في عمق السكون، ويجعل المكان كله يعج  بحركة لا تظهر للعيان بتاتا، ولكن تصل إليه لامحالة، ويتجاوب معها من خلال نبضات قلبه، سيما وأن صاحبة هذه التحفة رسمتها بإحساسها.
المثير في هذا العمل بالذات، المتاح لنا رؤيته، هو ذلك الانسجام  والتناسق بين ألوان  تنتشر في جميع الأرجاء، وبدون أن  تترك فراغات داخل الفضاء المختار بدقة   ليحتضن الموضوع الذي يشكل  كتلة لونية معتبرة ووازنة في الوسط، حيث تقبع على أعراف غابرة،  وأحداث عابرة، موغلة في عمق  الزمن، تعمدت الفنانة القديرة تجسيدها على القماش بواسطة فرشاة دقيقة، تتحكم في الصباغة الزيتية وتضبطها، لتشكل منها على القماش ما تشاء من مجسمات، وهيآت، ومركبات في غاية الدقة، تركز غالبا على الجزئيات الصغيرة وتقتفي أثرها…وتفاديا للتكرار ، فانها لا تقف عند الخصوصيات فقط، كما كان يفعل أحيانا الرسام الايطالي  الكبير دافتشي منذ قرون، بل تحرص أيضا على عدم إهمال تلك العموميات  المشار إليها مباشرة من خلال الألوان الثانوية والزاهية، مما يضفي على العناصر كلها هالة تترسخ في الأذهان،خاصة وأن هذه الرسامة الموهوبة قد  سخرت بعض ما في مخزونها من مكتسبات معرفية، وزخم فني، ووظفت جزءا من ذكائها إلى جانب خيالها كذلك لتجسيد، بواسطة  أشكال وألوانموضبة في قالب فني رفيع، أن كل ما يخالج الخواطر لا يبقى ساكنا في موضعه إلى الأبد، بل يغادره بعد أن يخرج منبثقا، فيتسرب  متحديا حتى الأسوار المتينة، والبنايات المحصنة وكذلك الأبواب  المغلقة، وهذا الشيء يوحي إليه  أصفر داكن يذكر بلون الأظرفة   وما تحمله في جعبتها من أسرار وأخبار، يصبغ ثوب شخص نحيف، يبدو  مهرولا على شاكلة حاملي الخطابات، ويتجه نحو بوابة ثابتة في الواجهة ليقتحمها، مخترقا إياها ليصل إلى عمق خلفية أبت المبدعة إلا أن تخفيها عمدا لتثير الفضول، وتطرح تساؤلات عديدة.
الملاحظ  أن  تلك العناصر ،على اختلافها، سواء كانت من الأشكال أو الشخوص، قد أسقطت بعناية فائقة لتحوم حول الموضوع الرئيسي، وتؤدي وظائفها على أكمل وجه خاصة وأنها تتواجد في أمكنة مناسبة، مثبتة في الواجهة تطبع الفضاء كله، وتأخذ قوتها من لون مستوحى من غسق غير قار، يظهر وكأن حجمه يكبر تدريجيا، ويتكدس ليصبح لونا غامقا، قد يرخي سدوله لامحالة على الجوانب والهوامش ، ويجعلها غارقة في الظلام الدامس يوحي إليه أسود غير ثابت على حاله، ولا يبقى لازما مكانه، يبدو كذلك من خلال طريقة التكثيف والتخفيف المتبعة في استعمال الصباغة وتوزيعها على الفضاء للإشارة إلى مسألة السيرورة.
فالزمن لا يقف عند هذا الحد في هذا العمل بالذات، بل يتعداه لمجاراة الأحداث وهي تتعاقب باستمرار، وذلك ما توحي إليه زخات لونية، تبدو وكأنها تتساقط تباعا من الأعلى إلى الأسفل بفعل تقنية التنقيط المستعملة لإنجاز هذا العنصر المهم الذي يخلق دينامية لا تنتهي ويترك المكان مأهولاغير قاحل.


الكاتب : ذ. عبد السلام صديقي

  

بتاريخ : 11/12/2019

أخبار مرتبطة

  قد تحمل الحرب الإسرائيلية الجارية علnى قطاع غزة  المفكر المغربي المعروف عبدالله العروي على التفكير في كتابة الجزء الخامس

تعني الكتابة في ما تعنيه، أن تتواجد في مكان آخر بينما أنت قابعٌ في مكان مّحدد المعالم، أي أن تكون

يرتقب أن تستقبل مؤسسة»أرشيف المغرب» معرضا خاصا بمسار عبد الواحد الراضي، القيادي الراحل في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وقبله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *