الرقابة والاضطهاد في العالم العربي .. بيدرو بوينديا

تناقضات داخلية
إن بانوراما كهذه من ميثاقات التعايش مفتقرة إلى الثقافة الديمقراطية وتوازن القوى إنما تبرز تناقضات الدول المضطهدة والإسلام السياسي والمجتمعات العربية نفسها. من جانب يطالب الإسلاميون بشكل دائم بحريات أكثر، لكنهم يقدمون برنامجا سياسيا مضطهدا يسمح فيه حماسهم الهذياني فقط برؤية الحل لكل المشكلات: “الإسلام هو الحلّ”. يبدو أنهم يعرضون نسخة إسلامية من الديمقراطية المسيحية، (“الديمقراطية الإسلامية” الشهيرة). لكن دون مراجعة الإسلام في الموضوعات التي تخصّ الارتداد والتحوّل عن الدين والزواج المختلط وحقوق المرأة وعدم المساواة الأساسية التي أقرها الإسلام بين المسلم وغير المسلم. وهكذا يؤكدون أنه لا يجب مراجعة الإسلام ولا المساس بالقوانين الرجعية للأسرة، بل يجب أسلمة الحداثة وهذا يدعوهم في الوقت نفسه لمطالبة النظام بحريات أكثر كي يتمكنوا من الوثوب على السلطة.
يجد المجتمع المدني نفسه صامتا ومشوشا. إنّ الحكومات الديكتاتورية العربية بعد عقود من إخماد ما كان ينمو في داخل مجتمعاتها نفسها قامت بخلق مجموعات من المواطنين المشوشين، في ثقافتهم السياسية الضحلة يعيشون للآن البريق البائس للقومية العربية والبريق الأقل بؤسا للقومية الإسلامية السلفية. ثمة نزاع هائل على الهوية والاستقطاب بين الحكومة الاستبدادية والإسلاميين يساهم في التشوش أكثر ” المسلم اليوم، يؤكد موستين، يواجه مأزقا خاصا. في الكثير من البلاد الإسلامية ينحو المثقفون إلى أن يكونوا حذرين عند شجبهم سلوك الحكومات التي تعذّب وتقتل، بسبب خوفهم من منح الأصوليين الجهاديين بهذا الشكل تأييدا ضمنيا والذين ما زالوا للآن غير مبالين بحقوق الإنسان التي تحاربها الحكومات هذه. من جانب آخر فإن المدافعين عن حقوق الإنسان يترددون في مساندة الأقليات أو المثقفين المتهمين بالردة، مفكرين أنهم هكذا ربما يسهلون مصالح الكافر الغربيّ. هذا إلى جانب الواقع المؤلم للإرهاب.
الصحافة والسينما والتليفزيون
إن معظم الدساتير العربية تقدّم ضمانا واضحا وظاهرا لحرية التعبير، هكذا هي المادة 47 من الدستور المصري والمادة 8 من الدستور التونسي والمادة 38 من الدستور السوري والمادة 36 من الدستور الكويتي …إلخ. لكن كلّ هذا يكتسب أهمية قليلة عند مقارنته بالقوانين الخانقة والقاسية للصحافة التي تعلو، في مفارقة معتادة في البلاد العربية، على الدساتير الخطابية والزخرفية. قانون تنظيم الصحافة في مصر يمنع بشكل واضح الحض على “إثارة الضغينة” ضد أيّ مؤسسة من مؤسسات الدولة، أو نشر معلومات مضللة وزائفة في الخارج يمكن أن تضرّ بمصالح مصر. يمنع قانون الصحافة التونسيّ نشر أيّ شيء يمكن أن يكدّر “النظام العام” (مادة 73) أو ينتقد السلطة، حتى لو كان النقد قائما على دلائل مؤكدة (مادة 75). قانون الصحافة الجزائريّ يمنع “المعلومات المضللة” و “الفرية” و”انتهاك أمن الدولة” ونقد الإسلام. هناك بلاد كمصر وسوريا تعيش بشكل دائم تحت قانون الطوارئ منذ أكثر من أربعة عقود وهذا ما يخوّل لحكوماتها أن تغلق الجرائد وأن تحتجز المطبوعات وأن تراقب أعداد الجرائد واحدا فواحدا. يكتسب الأمر صبغة تراجيكوميدية عندما يتم فحص الدستور الإيرانيّ، تؤكّد المادة 24 أنّ “الصحافة ومطبوعات أخرى ستكون حرّة في نشر أفكارها ما لم تضرّ هذه بالأسس الإسلامية والحقوق العامة”، كذلك المادة 175 لا تضيع الوقت “تبقى حرية التعبير والنشر في الوسائط الإعلامية (الصحافة والراديو والتليفزيون) مصونة بارتكازها على المبادئ الإسلامية، تمضي إدارة الوسائط تلك تحت الرقابة الوثيقة للقضاء وللسلطتين التشريعية والتنفيذية” وعلى هذا تكشف لنا مجلة Index of Censorship أنه منذ الثورة يتم نشر أكثر من سبعين من الوسائط الإعلامية في المنافي وأنّ رئيس تحرير المطبوعة الأسبوعية Asghar Agha  هادي خرسندي كان على قوائم الاغتيال في مؤامرة كشفتها اسكتلاند يارد عام 1984.
لم تنج السينما كذلك من الملاحقة والرقابة. إنّ بلدا غير عربيّ كإيران يمكن أن يحتفظ بعلاقة عاصفة مع واحد من الفنون غير المكلفة والتي أعطت البلاد سمعة عالمية. في السنوات الأربع اللاحقة على الثورة تم منع 513 من أصل 898 فيلم أجنبي و 1956 من أصل 2208 فيلم محلّي. عندما يطرح موضوع المرأة يبدو أنّ آيات الله يصلون إلى سورة غضبهم “جاءت حقبة من الرقابة الذاتية ومن تحاشي ظهور المرأة على شاشة السينما بأيّ ثمن. على النساء أن يكنّ ربّات بيوت أو أمّهات، يظهرن محجّبات حتى أمام أقرب الأقرباء. عندما يتحركن عليهن أن يخفين ظلهن قدر الإمكان، يجب إعطاؤهن أدوارا ساكنة وألاّ تظهر أجسادهن من أسفل الرأس. واحد من المخرجين من جيل ما بعد الثورة ذهب إلى ما هو أبعد من تلك الممارسات […] مؤكدا أن المرأة لا بدّ أن تظهر جالسة في الأفلام الإسلامية لتحاشي لفت الانتباه إلى مشيتها المثيرة. وفي أغلب البلاد العربية لابد أن تمرّ الأفلام على لجنة حكومية تمنع أو تسمح بالعرض بالإضافة إلى منحها نوعا من “الفيزا” كي يمكن أن تعرض في الخارج. إن المتعاطي مع موضوعات الدين والجنس والسياسة كمن يمشي على الأشواك. يشرح القانون المصريّ للرقابة على المصنّفات الفنّية لعام 1976 ذلك بشكل واضح إذ لا ينبغي انتقاد الأديان السماوية الثلاثة “اليهودية والمسيحية والإسلام” وألا يتمّ التعامل مع الهرطقة والسحر بشكل متجاوب وألا يتم تبرير الرذائل والأفعال اللا أخلاقية بل يجب القسوة عليها. لا يسمح بصور الجسد البشريّ والتضخيم غير العاديّ للأجزاء الحسّاسة من الجسد وكذلك تمثيل مشاهد تثير الغرائز أو مشاهد تناول الكحوليات والمخدرات. كذلك لا يسمح باستخدام لغة بذيئة أو غير محتشمة وأن يحظى الآباء والأمهات بالاحترام وكذلك القيم العائلية. كذلك تمنع الجرعات الزائدة من مشاهد الرعب والعنف أو التحريض عليها.
بعد إلقاء نظرة سريعة على الواقع المؤلم للعالم العربيّ (كثيرون في الغرب ينكرونه بحماسة تبعث على الدهشة بل ويباركونه من أجل مصالحهم) يمكن صياغة سؤال أخير: ألم يطل أمد الظل الثقيل للرقابة والاضطهاد؟ ألم يتغيّر موقف أحد بعد إهدار دم سلمان رشدي وقتل ثيو فان جوخ في شوارع أمستردام؟


الكاتب : ترجمة: أحمد يماني

  

بتاريخ : 19/08/2017