الشاعر .. الذاهب إلى الحرب بوردة وجيش في القلب

1
أن تكون شاعرا اليوم؟
معناه، أن تبني وطنا من كلمات وتخبئ كل الرصاص في جيب الحكمة.
أن تهدم بيت العناكب لتجلو عن بصيرة العالم هذا العماء الذي تتوسع حدقته يوما بعد يوم.
أن ترمم خراب الأمكنة وتصدعات النفس بما ملكت أيْمانك من فَراش الفرح والضحكات الهاربة، وتقول للعالم الحاد القسمات:
ها أنذا عصف ريح
بلا نايات
أعزف لحن الوجود
أكتب نهايات سعيدة لبدايات تئن
أُغمض لقسوتكَ جناح ذل
من شِعر ومن حرير الكلام
بمنقار طائر الطنان
أمتص رحيق الحياة من بين مخالب الأزمنة الصعبة
أحيا وأموت
طفلا.
أيها العالم
أنا الضوء
حين توقد العتمة قناديلها في كل شيء.

2
يلتفت الشاعر اليوم أمامه ويتساءل: أين هم الغاوون؟
قادما من تخوم المذهل واللامتوقع، ذاهبا الى اللامدرك واللايقين بعينين مغمضتين وبصيرة مفتوحة، يصر الشاعر الحقيقي على المشي فوق الطرقات المسننة والحقول المفخخة بالديناميت كالذاهب الى الحرب بوردة في يده، وجيش في قلبه.
الشاعر، الكائن المنذور للهشاشة وللرقص على شفير الهاويات والنهايات الثملى بالخسارات، قدره أن يقيم بين الأسلاك الشائكة وأن يظل مادة عازلة للألم عن الآخرين.
وحين يعلو غبار الحروب يتزنر باللغة وفائضها، يرتدي الكلمات وينتحب ضحكا..
هو الزورق المنذور للغرق لينجو ضمير الإنسانية
مؤمنا بأن عليه أن يكنس الغيمات عن وجه السماء، غيمة غيمة، حين لا تتضح الرؤية و»تضيق العبارة»
وحين يشتبك مع العالم، يزند حطب اللغة، يجس نبض الألم المختمر في أكثر من شريان، ليخرج من المعركة بجمرة في القلب واللسان.
لايهمه أن يمشي وحيدا في الطريق دون وصول، فقد اعتاد أن يحمل كلماته فوق ظهره كنملة تحمل قوتها لتقتسمه في النهاية مع باقي القبيلة. وحين ينعزل بذاته ولذاته، فإنه يفعل ذلك فقط ، ليذوب وسط الجميع.

3
الشاعر أعمى والشعر عكازته التي يهش بها على الخيال، فتتضح الطريق.
يقوده حدسه وخوفه من المجهول ليبني وعيه على اللااطمئنان مع ما يحيط به كحقيقة، أيقونة القلق الدائم من القادم ومن التكرار ومن سقط الكلام.
الشاعر ليس عبدا للغة، يتذلل إليها كي تجود عليه ببعض مائها، هو يدرك أنها ليست نثار كلمات مكرورة، لذا يقوم بتقشيرها طبقة، طبقة فيخرج عاريا للعالم كي يعريه ويفضحه. كي يحمي اللغة الجدار الاخير الذي نتكئ عليه.
هو الديمة السَّكُوبُ القادمة من السماء الثامنة، حين تظمأ الأرواح ولا مطر..
وهو يسافر في اللامدرك باحثا في دغل الاسئلة الملحة عن جواب لا تمنحه القصيدة، يقيم على ضفاف الدهشة ويحصنها بلغة شفيفة وقابلة للانفجار كلما نضجت أكثر.
ووسط كل هذا الضباب الكثيف، يطل الشاعر كالمنجمي الذي يحمل مصباحه الكشاف فوق جبينه، ليضيئ دروب الحياة المظلمة، مقترحا علينا حياة موازية ..حياة ثانية في مقابل الحياة التي لم نعشها.
يأتي الشاعر محملا بالوعود كما الأنبياء،
وبالرعود الهادئة التي تهدر في سمائه وهو يقطف نجيمات أدركها الصباح
يأتي؛
لا ليقول كلمته النهائية هو الكائن الذي لن يقولها أبدا ، لأن صمت الشاعر يوازي الموت المبكر بقسوته، قسوة مجاورة الأحياء للموتى، والموتى للأحياء
يأتي ليوقف صور الحياة السائلة
«ليخسر السماء ويربح الأرض» ويقول للعالم المجنون:
هه، تعقلْ، لقد خرجت عن النص.


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 22/03/2019

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

«هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟» مجموعة قصصية جديدة   «هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟»هي المجموعة القصصية الثالثة لمحمد برادة، بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *