المــدرســة والــديــمــقــراطــيــة

 

ان الشكل المدرسي لا يرتبط بالضرورة بالديمقراطية، ذلك ان تجميع التلاميذ داخل نفس الفضاء ومنحهم تعليما منهجيا يقدمه مجموعة من الأساتذة، وتقويم تعلماتهم عن طريق الامتحانات والمباريات يسبق تاريخيا  ظهور الديمقراطية. من ناحية اخرى، فان المدرسة» اخترعت» من طرف الكنسية الكاثوليكية، ومن طرف الديانات الكونية الكبرى غير المكترثة تماما، بل والعدائية ازاء ما نسميه بالديمقراطية. لقد كانت مختلف هذه المدارس تستهدف، بالدرجة الاولى بناء نظام سلطوي ينبني على اساس الالتزام بالكلام الاهي وكلام الحاكم، اكثر من استهدافها جوهر وممارسة الديمقراطية. ان المدرسة العصرية، في العمق، هي من اختراع الكنيسة لكنها لم تنفصل عنها لكي تصير ديمقراطية. ان بعض هذه المزاعم لاتخبرنا، مع ذلك، بما نحتاج ان نعرفه عن ماهية الديمقراطية.
مبدءان أساسيان: حرية التفكير والمساواة

اذا تركنا جانبا التعريف المؤسساتي للديمقراطية باعتبارها نظاما سياسيا خاضعا للسيادة الشعبية، فان التعريف الاول للديمقراطية يرتبط بالمجال الثقافي او مجال القيم. ان المجتمع الديمقراطي يسعى الى تحقيق حرية الافراد، اولا حريتهم في التفكير، وحرية الاعتقاد وعدم الاعتقاد، مع قبول معتقدات الآخرين. وبهذا المعنى، فان الفاعل الديمقراطي هو فاعل حر لكنه يتقاسم مع الاخرين انخراطهم في القيم الديمقراطية. ولهذا السبب خاضت المدرسة الديمقراطية وباستمرار حربا صامتة الى حدما مع المدرسة الدينية، وانتهت غالبية الدول الى صياغة مجموعة من التوافقات حول هذه النقطة من خلال تعريف المدرسة الديمقراطية كمدرسة لائكية. وعلاوة على ذلك، فان المدرسة الديمقراطية تؤمن بفكرة أن العلم والمعرفة يساهمان في ترسيخ وتعزيز الاستقلالية الفكرية والمعنوية للافراد.
أما بخصوص المبدا الثاني للديمقراطية فهو ذو طبيعة اجتماعية يتعلق بمسالة المساواة كما حددها Tocquevilleفبينما كانت المدرسة التقليدية مخصصة لاطفال نخبة اجتماعية معينة، وفي غالب الأحيان، للذكور وحدهم، فان المدرسة الديمقراطية ينبغي ان تكون مفتوحة امام الجميع كيفما كانت ولادتهم، وجنسهم، وثقافتهم. ينبغي أن يذهب جميع الأطفال الى المدرسة…وبهذا المعنى، فإن المدرسة الديمقراطية لا يمكنها ان تكون متكافئة، او على الأقل لاينبغي لها ان تنتج سوى اللاتكافؤات «العادلة القائمة على أساس استحقاق وجدارة الافراد. إن السوسيولوجيا تعلمنا اننا لازلنا بعيدين عن هذه المسألة، لكن مع ذلك فإن مبدا المساواة الاساسية يعتبر احد مبادئ الديمقراطية.
إن تحديد مبادئ وقيم الديمقراطية هو بدو شك عمل ضروري لكنه لايسمح لنا البتة بفهم ووصف تاريخ ووظيفة الانظمة المدرسية.
المدرسة الوطنية والطبقات الاجتماعية

عندما فرض مشروع المدرسة الديمقراطية نفسه في اوروبا خلال القرن 19 ثم في امريكا الشمالية والجنوبية، لم يكن موضوع الديمقراطية في الواجهة بالمقارنة مع مواضيع الامة والمواطنة. لقد كانت المدرسة العمومية المجانية والاجبارية تهدف، بالدرجة الاولى، الى بناء وعي وطني عبر تعلم اللغة والتاريخ المشترك، كما كانت تهدف الى تطوير الانخراط ضمن النظم السياسية الجديدة التي اعتبرت آنذاك بمثابة نظم سياسية ديمقراطية، و الى التاكيد، في كثير من الاحيان، على القيم المرتبطة بالمعاصرة والعلم والتقدم في مقابل القيم التقليدية التي كانت سائدة في تلك الفترة. وهكذا فان هذه المدرسة الديمقراطية كان بامكانها بالاحرى ان تكون اكثر سلطوية في اداء مهامها وذلك في سبيل تكوين مواطنين وطنيين دون أن تعمل اكثر على تكوين فاعلين ديمقراطيين. وتعتبر هذه المدرسة اكثر ارتباطا بالانضباط وبناء مجتمع عصري بدل الارتباط بالافراد الديمقراطيين. ففي فرنسا على سبيل المثال، كانت المدرسة اكثر وطنية وجمهورية منها ديمقراطية خالصة.
وفيما يخص البعد التكافؤي للديمقراطية، فاننا ندرك جيدا ان هذه المدرسة المفتوحة امام الجميع، كانت ايضا مدرسة طبقية. فالى حدود سنة 1960 وفي غالبية البلدان المعاصرة كانت المدرسة تقابل بين مدرسة الشعب ومدرسة البورجوازية وذلك بنفس الكيفية التي كانت تفصل فيها الفتيات عن الذكور. بعبارات اخرى فان المدرسة كانت تفصل بين التلاميذ بناء على الطبقة الاجتماعية التي ينتمون اليها مع السماح لفئة قليلة من ابناء الشعب الاكثر تفوقا والاكثر استحقاقا بالالتحاق بالنخبة المدرسية. ونعلم ايضا ان اتساع نطاق المدرسة قد غير من آليات تكوين اللاتكافؤات المدرسية دون ان يحقق النموذج المثالي الحقيقي لتكافؤ الفرص: ففي كل مكان من العالم، يعد المنشا الاجتماعي العامل الحاسم في نجاح التلاميذ.
ان هذا النقد المزدوج -كون المدرسة سلطوية وغير عادلة على المستوى الاجتماعي – لا ينبغي ان يمنعنا من رؤية ان بناء المدارس العصرية قد عرف انخراطا واسعا. وبالرغم من اللاتكافؤات الاجتماعية، فانها كانت تفتح المدرسة امام اولئك الذين حرموا منها، وتلغي كل الحواجز الاجتماعية، كما كانت تقترح القيم التي من شانها ان تحررالمجتمع من سلطة التقاليد والدين. في كل مكان فان هذه المدرسة كان ينظراليها كمدرسة محررة ومتحررة، واليوم ايضا هناك العديد من المدرسين، ورجالات السياسة والمثقفين ومواطنين عاديين يحنون كثيرا الى هذه المدرسة. ان هذا الحنين هو اقوى من كون ان تلك المدرسة كانت ترتكز على مشروع تربوي متين ومشترك يتمثل على الخصوص في تكوين، عن طريق المواد الدراسية، فاعل وطني، مواطن ينخرط ضمن المؤسسات وفرد يتقاسم ارضية اخلاقية مشتركة.
رهانات ونقاشات المدرسة الديمقراطية اليوم

يمكن القول وبكيفية سريعة ان خيبة الامل الاولى اتجاه المدرسة الديمقراطية ترتبط اساسا بقضية اللاتكافؤات. فبينما كان من شان الانفتاح على التعليم للجميع وكذا التطور الهام الذي عرفه التعليم العالي ان اديا الى اضعاف او القضاء على اللاتكافؤات المدرسية، على اننا نلاحظ وبدرجات مختلفة وفي كل انحاء العالم ان المدرسة تساهم في اعادة انتاج اللاتكافؤات المدرسية. ليس فقط لان العرض المدرسي يظل غير متكافئ، ذلك ان جميع المؤسسات غير متساوية لكن لان احتياجات الاسر هي بدورها غير متساوية. ان اسر الطبقات المتوسطة تسعى الى الهروب من المدرسة العمومية من اجل المحافظة على امتيازاتها الاجتماعية والمدرسية. والى جانب خيبة الامل هاته تنضاف اليوم المسالة الجديدة للعلاقات بين الشواهد وسوق الشغل: ان عدد الشواهد في ارتفاع مستمر، ينبغي الحصول على الشواهد بشكل متزايد من اجل ولوج مناصب شغل متميزة. وبالرغم من ان مدرسة اليوم هي اقل تكافؤا من مدرسة الامس، فان ذلك لا يمنع من النظر اليها في اغلب الاحيان كمدرسة غير عادلة لانها لا تلتزم بوعودها في تحقيق العدالة والتكافؤ.
لكن ليس هناك فقط مسالة العدالة الاجتماعية التي تساءل المدرسة الديمقراطية. وبالفعل فقد تعززت متطلبات ومقتضيات الحرية والاستقلالية الذاتية في عدد كبير من البلدان. اننا نلاحظ في جميع الانظمة المدرسية انها تعيش «ازمة السلطة»: سلطة المدرسين اصبحت اقل مشروعية، كما انها اصبحت ترتكز على الخصائص الذاتية اكثر من ارتكازها على سلطة المؤسسة ذاتها. فلكي تصير مواطنا مستقلا لا يكفي ان تنخرط ضمن القيم العليا للديمقراطية ينبغي ايضا تعلم الحياة الديمقراطية داخل المدرسة. فاذا كان التلميذ في الماضي يتعلم الديمقراطية مع التزامه الصمت، فان الفاعل الديمقراطي اليوم ينبغي ان يتعلم ان يناقش وان يبرهن وان يحيا مع الاخرين. ايضا نلاحظ في العديد من الدول وجود تعارض بين مؤيدي التقليد ومؤيدي التجديد البيداغوجي. في فرنسا هناك تعارض مثلا بين الجمهوريين والبيداغوجيين.
ان جميع الدول قد عرفنت وان بصور مختلفة نفس النقاشات: كيف يمكن ان نجعل هذه المدرسة اكثر تكافؤا واكثر تطابقا مع الافاق الديمقراطية للمساواة؟ ان هذه المسالة اليوم هي مسالة اخلاقية: هل نحن مؤهلون الى المساواة؟ ماهي السياسات والممارسات الاكثر عدالة:. في هذا المجال يمكن للعلوم الاجتماعية ان تلعب دورا هاما عن طريق استخلاص الدروس انطلاقا من المقارنات الدولية. لكن المساواة ليست هي جوهر الديمقراطية بل تطرح ايضا مسالة قيم الديمقراطية ذاتها والمتمثلة في حقوق التلاميذ وتفتحهم الشخصي وكفاياتهم الاجتماعية وقدراتهم على التعايش الجماعي. ان مسالة الديمقراطية هي ايضا قضية البيداغوجيا. وحول هذه النقطة ليس من المؤكد اننا جميعا متفقون.
لكن مع ذلك هناك خبر جديد..ان عدم الاتفاق والنقاشات تساهم في اغناء الحياة الديمقراطية والحكمة الديمقراطية تقتضي اننا لانعيش دائما ضمن عالم متفق اتفاقا كليا. ان اعداء الديمقراطية سواء كانوا علمانيين او محافظين يعتقدون العكس. ولهذا السبب فان المعركة من اجل مدرسة ديمقراطية ليست في طريقها الى الاختفاء.

(*) فرانسوا دوبي، استاذ علم الاجتماع بجامعة بوردو، ومدير الدراسات بمدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية.
تنصب اعماله بالاساس على الحركات الاجتماعية، المدينة، المدرسة والنظرية السوسيولوجية. احد الذين ساهموا في انجاز تقرير «Le Collège de l’an 2000 والذي رفع الى وزير التعليم المدرسي سنة 1999.


الكاتب :  ترجمة: مصطفى حسني

  

بتاريخ : 21/02/2018