أبعد من كرة القدم، تحولت مقصورات الملاعب الى ميدان للأعمال والعلاقات العامة بين المشاهير ورجال السياسة والرياضة. الثلاثاء، لم تكن المقصورة الفخمة لملعب “بارك دي برانس” التابع لنادي باريس سان جرمان الفرنسي، استثناء.
حلويات، مشروبات كحولية فاخرة، وإطلالة لا تقارن على أرض الملعب… هذا ما يحصل عليه رواد مقصورات كبار الشخصيات التي شيدت في ملعب نادي العاصمة الفرنسية عند تحديثه عام 2016، بعد خمسة أعوام من انتقال ملكيته الى هيئة قطر للاستثمارات الرياضية.
وبغض النظر عن هوية الفريق الذي سيتأهل الثلاثاء الى الدور ربع النهائي لمسابقة دوري أبطال أوروبا، إن كان المضيف الباريسي أو ريال مدريد الاسباني حامل اللقب الأوروبي، فإن الأنظار ستتجه الى المقصورة الرئيسية المعروفة بـ “مربع البارك”، والتي تتسع لـ 242 مدعوا.
وتقول المسؤولة السابقة عن إدارة المقصورة الرئيسية فاليري دو لا روشبروشار “تلقي دعوة الى +المربع+ هو امتياز (…) هي أشبه بمقصورة في دار أوبرا، أو مقصورة رئاسية في ملعب آخر”.
شملت لائحة المدعوين الى هذه المقصورة على مر الأعوام الماضية، أسماء كبيرة في قطاع الترفيه والاعمال والسينما وحتى السياسة. لكن ما هو المعيار لاختيارهم؟ توضح دو لا روشبروشار “لتتم دعوتكم الى +المربع+، يجب ان تكونوا موضع اهتمام من قبل الأشخاص الذين يديرونه”.
في عهد الرئيس الحالي للنادي القطري ناصر الخليفي، يتولى حكم كرة المضرب التونسي السابق عادل عارف إدارة “المربع” واختيار المدعوين، بمتابعة مباشرة من المسؤول القطري الحريص على حسن انتقاء ضيوفه.
وتقول الروسية فيكتوريا لوبيريفا التي عملت سابقا كعارضة أزياء ومقدمة برامج تلفزيونية، وتشغل حاليا منصب سفيرة لكأس العالم 2018 في بلادها، “كنت أحلم منذ فترة طويلة بزيارة (الملعب) ورؤية الأساطير الباريسية، وتحول حلمي الى حقيقة بفضل دعوة لطيفة من الرئيس ناصر الخليفي”.
وأوضحت لوبيريفا لوكالة فرانس برس ان الدعوة لم تقتصر عليها فقط، بل وجهت أيضا الى إبن شقيقها، في نهاية نوفمبر الماضي.
الا ان التركيز في ثاني أهم ملاعب العاصمة الفرنسية بعد “ستاد دو فرانس” الذي شيد خصيصا لاستضافة مونديال 1998، لا يقتصر على مدعوي المقصورة الرئيسية.
فسان جرمان يبحث أيضا عن عائدات الحضور الجماهيري. وما يعزز هذه العائدات التي قدرت بـ90,2 مليون يورو عام 2016 من قبل مجموعة “ديلويت” الاستشارية، هي مقاعد “الضيافة” التي يبلغ عددها 4800 مقعد، أي نحو 10٪ من عدد المقاعد في الملعب.
ويوضح أوليفييه مونا، المسؤول في مركز القانون والاقتصاد الرياضي، لوكالة فرانس برس أن “20٪ من المقاعد في الملعب تولد 80٪ من الدخل، وفي +يوم المباراة+ تعتبر مقاعد الضيافة الأكثر مردودا”.
وإدراكا للطلب المرتفع والفوائد الاقتصادية الكبيرة في حقبة اللعب المالي النظيف المفروض من قبل الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، قرر المالكون الجدد للنادي زيادة عدد مقصوراته بشكل ملحوظ.
ويقول المهندس المعماري روجيه تيليبير الذي أشرف على بناء الملعب المفتتح عام 1972، “بالنسبة للمقصورات، أنا قلت منذ وقت طويل بأنه يجب إقامتها، لكن لم يكن هناك شيء قبل وصول القطريين” عام 2011.
ومع أسعار تتراوح خلال الموسم الواحد بين 5400 يورو للتذكرة و200 ألف يورو للمساحة الحصرية في قسم “أفونو دو بارك” (“جادة البارك”) المرموقة، فسان جرمان كسب الرهان لدرجة أن المقاعد في قسم “الضيافة” قد حجزت هذا الموسم بالكامل تقريبا لصالح شركات كبرى أو مدراء شركات صغرى ومتوسطة، وذلك بهدف تعزيز شبكتهم المهنية.
من السجادة الحمراء المؤدية الى معرض الكؤوس التي فاز بها النادي، مرورا بالمطعم الفاخر، أو الزيارات التي يقوم بها اللاعبون بعد المباريات، كل شيء مخطط له لإبهار الضيف قبل الشروع في حديث “الأعمال”.
الأجواء “ودية، غير رسمية على الاطلاق، مما يسمح بالتواصل والمشاركة في النقاشات”، وذلك بحسب كريستوف روسو، منظم “سبورتم”، وهو المعرض الأوروبي للتسويق الرياضي الذي يقام للمرة الثانية في الملعب.
ويرى روسو أن “الأجواء تساعد الناس على الاسترخاء قليلا، والتواصل الأولي يمكن أن يتم في ذلك الوقت. الأعمال قد لا تحسم في الليلة ذاتها، لكنها قد تحسم بشكل جزئي…”.
هذه الاستراتيجية المروجة لملعبه الراقي يمكن أن تعمل فقط “إذا كان الناس يريدون الذهاب لرؤية فريق باريس سان جرمان” بحسب اوليفييه مونا. بعبارة أخرى، إن نجاح الضيافة مرتبط بجاذبية الفريق، من خلال أدائه في الملعب أو التعاقد مع لاعبين مثل السويدي زلاتان ابراهيموفيتش او البرازيلي نيمار الذي كلفه 222 مليون يورو لضمه الصيف الماضي من برشلونة الإسباني، والذي سيكون أبرز الغائبين عن لقاء الثلاثاء بسبب الاصابة.
ثمة عائق آخر لا يتعلق بجاذبية الفريق وقدرته على المنافسة أو استقطاب النجوم، يتعلق بعدم القدرة على زيادة السعة الى 80 ألف مقعد (بدلا من 48 ألفا حاليا)، لأنه “في مرحلة ما، لن نتمكن من دفع الجدران (لتوسيع الملعب). علينا أن نخترع أشياء جديدة” لزيادة الإيرادات، بحسب مونا.
ويسمح امتلاك هذه الأصول لسان جرمان بتعزيز صورته كـ”علامة كروية فاخرة”، ويمكنه من استقطاب جهات رعائية تتأثر بمكانة من ترعاه.
ويرى روسو أنه “إذا كنت تملك مستوى ضيافة يساعدك على ترويج ما تريد قوله على الصعيد التسويقي، فمن المؤكد أن ذلك سيساعدك على إقناع المعلنين بالقدوم اليك”.
تساؤلات حول عائدات
الاستثمار القطري
شكل إقصاء نادي باريس سان جرمان الفرنسي من دوري أبطال أوروبا لكرة القدم، خيبة للحاضرين في ملعب بارك دي برانس، والذين تقدمهم أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني ووالده الشيخ حمد بن خليفة، لاسيما وانه مث ل اخفاقا جديدا للاستثمارات القطرية الضخمة في النادي.
منذ العام 2011، استحوذت هيئة قطر للاستثمارات الرياضية على نادي العاصمة الفرنسية، وسخرت له امكانات مالية هائلة في سبيل تعزيز مكانته بين الأندية الكبرى في القارة العجوز، لاسيما إحراز لقب المسابقة القارية الأهم للمرة الأولى في تاريخه. الا ان الفريق الفرنسي خرج للموسم الثاني على التوالي من الدور ثمن النهائي، وذلك بعد خسارته الثلاثاء على أرضه 1-2 أمام ريال مدريد الاسباني حامل اللقب (1-3 ذهابا).
وتبدو الهزيمة التي مني بها الفريق الثلاثاء على ملعبه، وان أمام النادي الملكي العريق حامل اللقب في الموسمين الماضيين وحامل الرقم القياسي في المسابقة (12 لقبا)، عائدا متواضعا للاستثمار القطري في النادي، والذي يقدر بأنه تجاوز عتبة المليار يورو منذ عام 2011.
وكان مشجعو النادي يأملون في ان تكون سنة 2018 عام دخوله بقوة الى أندية النخبة الأوروبية، وذلك بعدما أنفق نحو 400 مليون يورو في صيف 2017 للتعاقد مع النجم البرازيلي نيمار والمهاجم الواعد كيليان مبابي.
الا ان سان جرمان خيب هذه الآمال ولم يحقق الطموحات، لاسيما وان المحللين ربطوا بين الانفاق المفرط للنادي ومالكيه في صيف 2017 على تعاقدات جديدة، والمسعى الى تسجيل هدف سياسي-إعلامي في مرمى الخصوم، في خضم الأزمة الدبلوماسية بين الرياض وأبوظبي والمنامة من جهة، والدوحة من جهة أخرى، والتي اندلعت في يونيو.
ولعل ما يزيد من خيبة الاقصاء للنادي الباريسي بالنسبة الى مالكيه، هو ان نادي مانشستر سيتي الانكليزي، المملوك من الوزير الاماراتي الشيخ منصور بن زايد آل نهيان منذ عام 2008، هو من أبرز المرشحين لنيل اللقب الأوروبي هذا الموسم (للمرة الأولى في تاريخه).
يبقى السؤال المطروح حاليا حول ماهية الخطوة التالية بالنسبة الى قطر في أحد أهم استثماراتها حول العالم، والذي يتوقع ألا يشمل التخلي عنه.
وقال مصدر مقرب من النادي الباريسي “المشروع لن يتوقف”، مضيفا “الاستثمار كان هائلا وسيستمر”.
المشروع يحمله على عاتقه ناصر الخليفي، الشخصية المقربة من الشيخ تميم. ويتولى الخليفي غير منصب، منها رئاسة هيئة الاستثمارات الرياضية وسان جرمان، وشبكة قنوات “بي ان سبورتس” وإتحاد المضرب القطري.
وبعد مباراة الثلاثاء، لم يخف الخليفي خيبته من الخروج الجديد من المسابقة الأوروبية، معربا عن غضب مقترن بدعوة الى البحث عن حلول بهدوء.
وقال “ليس الوقت مناسبا للحديث عن تغيير، الكل غاضب. نريد ان نهدأ كي نعرف ماذا نغير، لدينا الوقت للتفكير (…) في نهاية المطاف ريال مدريد يملك الخبرة، خسرنا ضد ريال وهو ليس اي فريق”.
ويرى استاذ مأسسة الرياضة في جامعة سالفورد البريطانية سايمون شادويك ان “إعادة هيكلة النادي ستكون مغرية على المدى القصير”.
أضاف الأكاديمي الذي يتعاون مع مجموعة أبحاث رياضية مرتبطة بالحكومة القطرية “على المدى الطويل هناك شعور واحد ألا وهو ضرورة الحفاظ على الهدوء والاستمرار”، متابعا “النجاح يتطلب استثمارا مستمرا في اكتساب المواهب والتطوير وليس فقط في جذب الأسماء الكبيرة”.
الا ان طول الأناة لا يعد من فضائل كرة القدم الحديثة، على رغم من ان تجربة الأندية التي “اغتنت” فجأة بعد الاستحواذ عليها من متمولين أجانب، مثل تشلسي ومانشستر سيتي الانكليزيين، تظهر أن أي فريق يحتاج إلى وقت لكي يفرض الفريق نفسه بين النخبة التقليدية في أوروبا.
وبالنسبة للمسؤولين عن الادارة اليومية في باريس سان جرمان، فان التفكير في الخسارة امام ريال مدريد قد يتخذ شكل البحث في مستقبل المدرب الاسباني أوناي إيمري، وحتى مصير نيمار نفسه.
وقال الصحافي الانكليزي المتخصص في كرة القدم الفرنسية جوناثان جونسون ان الاخفاق الاخير سيشهد “الاطاحة برؤوس” كبرى في النادي.
وبالنسبة الى المالكين القطريين، يبدو ان ما يجب القيام به مع باريس سان جرمان يتعدى الاعتبارات الرياضية، ويشمل جوانب عدة منها السياسة الدولية والدبلوماسية والاستثمارات الكبيرة.
وبحسب المحللين، شكل الاستثمار القطري في النادي الباريسي جزءا من سعي الدولة الخليجية الى تعزيز “قوتها الناعمة” وحضورها الدولي. وفي كرة القدم تحديدا، بلغ هذا الجهد ذروته من خلال فوز قطر باستضافة نهائيات كأس العالم 2022.
ويرى كريستوفر دافيدسون، أستاذ سياسات الشرق الأوسط في جامعة دورهام بالمملكة المتحدة، ان “مما لا شك فيه ان استثمار قطر منذ أعوام في مشروع باريس سان جرمان شكل نجاحا في مجال +القوة الناعمة+”.
ويبقى تمويل الحلم الأوروبي لباريس سان جرمان هو المفتاح. وفي حين يبدو استثمار مليار يورو في نادي العاصمة الفرنسية مبلغا هائلا، الا انه يوازي ما تنفقه خلال أسبوعين فقط على استعداداتها لاستضافة كأس العالم.
اترك تعليقاً