بين خطاب التأزيم، ونداء المسؤولية

تطغى على الخطاب السياسي، النخبوي، المتداول، منذ الانتخابات التشريعية الأخيرة، بصفة خاصة، نزعة التأزيم والتهويل في قراءة أوضاع البلاد السياسية والاجتماعية، وفي تشخيص عوارضها وعللها، وفي تصور مسارها تطورها، وتكهن أفق مآلها…
وفي غمرة سيل من «التحليلات» التهويلية، والمقاربات التأزيمية، تتقاطع تقديرات العديد من النخب السياسية والفكرية – التي تحتل صدارة المشهد الإعلامي – حول وجود «أزمة سياسية» بالبلاد، وإن اختلفت التقديرات حول درجة حدة هذه «الأزمة»، وحول نوعية المحددات الكامنة خلفها.

 

تطغى على الخطاب السياسي، النخبوي، المتداول، منذ الانتخابات التشريعية الأخيرة، بصفة خاصة، نزعة التأزيم والتهويل في قراءة أوضاع البلاد السياسية والاجتماعية، وفي تشخيص عوارضها وعللها، وفي تصور مسارها تطورها، وتكهن أفق مآلها…
وفي غمرة سيل من «التحليلات» التهويلية، والمقاربات التأزيمية، تتقاطع تقديرات العديد من النخب السياسية والفكرية – التي تحتل صدارة المشهد الإعلامي – حول وجود «أزمة سياسية» بالبلاد، وإن اختلفت التقديرات حول درجة حدة هذه «الأزمة»، وحول نوعية المحددات الكامنة خلفها.
وإزاء هذه الأطروحة التي أمست شائعة التداول والتي تبتعد – في رأينا – عن منهجية «التحليل الملموس» للواقع الملموس، يبدو من المفيد أن نضع رهن تقدير الرأي العام جملة من الملاحظات التي قد تساهم في صياغة رؤية أقرب ما تكون من حقيقة الوضع السياسي، موضوع السجال النخبوي الدائر…
أولى هذه الملاحظات، وتحيل على ضرورة تحديد المفاهيم، وتدقيق المدلولات في ما يتعلق بتوصيف الوضع السوسيو-سياسي الوطني.
ففي ما يتعلق بمفهوم (Concept) «الأزمة السياسية»، فإن هذا المفهوم ينصب، تحديداً، على وجود اختلال بنيوي مزمن في سير مؤسسات الدولة، وفي مقدمتها المؤسسات الدستورية، وعلى وجود أعطاب هيكلية في أداء وظائفها…
وفي هذه الحالة، فإن «الأزمة السياسية» تعني أزمة العمران المؤسساتي للدولة، من قبيل تعطيل دستوري، أو شلل برلماني أو فراغ حكومي الخ…
بيد أن هذه الحالة المؤسساتية، الدراماتيكية لا نجد لها أثراً في الوضع السياسي الراهن بالبلاد… فالمجلس النيابي الذي أفرزته الانتخابات التشريعية الأخيرة (أكتوبر 2016) يمارس صلاحياته الدستورية، ويواصل مهامه التشريعية والرقابية بكيفية عادية منذ تنصيبه…
كما أن الحكومة المنبثقة من الأغلبية البرلمانية الجديدة، تمارس مسئولياتها السياسية والتنظيمية، وفق ما تتوفر عليه من صلاحيات، وفي سياق «البرنامج الحكومي» الذي بموجبه تم تنصيبها في البرلمان بغرفتيه. ومن غير المناسب، سياسياً وأخلاقياً، استباق الحكم على «حصيلتها» وهي في نهاية فترة «السماح» التي تحظى بها، عرفياً، كل حكومة حديثة العهد بالتنصيب (مئة يوم).
فكيف يستساغ، إذن، الحديث عن «أزمة سياسية» بالبلاد، في شروط السير العادي لمؤسسات الدولة الدستورية؟
وطالما أن مفهوم «الأزمة السياسية» لا يستقيم لتوصيف الحالة السياسية بالبلاد، غداة الانتخابات التشريعية الأخيرة، وتبلور أغلبية حكومية جديدة، بقيادة الحزب الذي حاز الرتبة الأولى في نتائجها، فإن نحت مفهوم أكثر دقة وأنسب دلالة لتوصيف الراهن السياسي بالبلاد يصبح من الأهمية بمكان في صياغة ثقافة سياسية إيجابية ومثمرة، تتيح تقديراً سليماً للمسار السياسي بالبلاد، وتمكن الرأي العام من أداة ناجمة لمقاربة ومراقبة الشأن العمومي، كما تعزز قدرته على التدخل الواعي، السلمي، والبناء في تقويم وترشيد ذلكم المسار…

الملاحظة الثانية، وتتصل بتدقيق النظر في واقع الحال بالبلاد، في ظل ما يطبعها من توترات اجتماعية، ويغشاها من احتقانات سياسية، ويحيط بها من تحديات إقليمية ودولية…
وإذا كان المغرب لا يعرف زلزالاً سياسياً يطال عمرانه المؤسساتي، ويهدد استقراره المدني، حتى نتحدث عن «أزمة سياسية» – «كبيرة» – كما يردد البعض، فإن ذلك لا يعني البتة أن البلاد في منأى عن كل ما يقلق، خلوة مما يسيء ويربك.
لا مرية في أن مسار التحول الشامل، الديمقراطي والتنموي، الذي تنخرط فيه البلاد منذ عقد ونيف، ما انفك يعاني من اختلالات مقلقة، سياسية واجتماعية وثقافية، تتواتر مفاعيلها أو تتزامن.
أولها، الاختلال الذي يطال المجتمع السياسي، الذي ما انفكت غالبية مكوناته الحزبية تعاني من عجوزات فكرية وتنظيمية وثقافية، تعرقل تجدده الفكري، وتنال من تجذره الشعبي، وتشل قدراته على التفاعل الخلاق مع انتظارات الكتلة الشعبية من جانب، وعلى الاضطلاع بدور سياسي، ريادي في تأصيل الخيار الديمقراطي، وفي توطين الفعل التنموي من جانب آخر.
وتعود ظاهرة الاحتقان المتزايد التي تفشت في المجتمع السياسي، الحزبي – عمودياً وأفقياً – إلى مفاعيل عجوزاته الذاتية، الفكرية والتنظيمية والثقافية، في الغالب الأعم، وهي العجوزات التي باتت تحول دون وفائه الكامل بمهامه الدستورية في تأطير المواطنين، والمساهمة في إرساء وتجذير مبادئ وقيم المواطنة.
ومن مسببات هذا الخلل الذي أضحى مستحكماً في فعالية وإنتاجية غالبية مكونات الحقل السياسي، تغافل العديد من النخب الفكرية والسياسية عن ضرورة وحيوية الالتزام بمقتضيات المرحلة السياسية الماثلة على المستوى الوطني، وهي مرحلة إتمام وإنجاز مهام التحول الديمقراطي-التنموي، بما يقتضيه ذلك التحول من توسيع القاعدة السياسية المدعمة للخيار الديمقراطي، الحقوقي، وبلورة كتلة ديمقراطية وطنية، مصاحبة ومعززة لجهود الدولة، في سياق جهودها الحثيثة من أجل تفعيل وتكريس المبادئ الديمقراطية، والقيم الحقوقية، والقواعد والأطر الحكاماتية التي أقرها دستور البلاد، وصادقت عليها الأمة.
لكن هذه الاختلالات، بمختلف متغيراتها السياسية والاجتماعية والثقافية، ليست نتيجة الطارئ، ولا وليدة الراهن، بل هي نتاج مسلسل طويل ومعقد من التحولات المجتمعية، والإشكاليات التنموية، فضلاً عن العوامل الاقتصادية والجهوية؛ وهي اختلالات تشكل في مجموعها إشكالات هيكلية، لصيقة بالإشكالية العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلاد.
ثانيها، الاختلال الذي يطال الفضاء الاجتماعي بالبلاد، لجهة العجوزات الاجتماعية المتراكمة في مجالات الشغل والصحة والتربية والتكوين وغيرها…
ويكمن هذا الاختلال الاجتماعي خلف العديد من الاحتجاجات المطلبية التي تسائل الدولة في أكثر من مكان وقطاع، مستندة في ذلك إلى المكتسبات الديمقراطية والحقوقية التي يضمنها دستور البلاد.
لكن غياب التأطير السياسي للحركات الاجتماعية في الميدان، بفعل حالة الاختلال الذي يطال المجتمع السياسي، ورهافة الخط الفاصل بين الطابع الاجتماعي والطابع السياسي لهذه الحركات المطلبية، في شروط التحولات المجتمعية الجارية، ليستدعيان، من قبل الدولة، الكثير من الحيطة والحذر، حفاظاً على مقومات الاستقرار المجتمعي من جهة، وتفعيلاً لثنائية الحق والقانون في مفهوم الدولة الحديثة من جهة ثانية أخرى…
ثالثها، الاختلال الثقافي الذي مازال يلقي بكلكله على البنية الثقافية للمجتمع، فيهشش تماسك فئاته، وينال من تجانس مكوناته.
لقد رسخ القانون الأسمى للبلاد ثوابت الأمة، وأرسى مقومات هويتها بمختلف روافدها الثقافية، وحواملها المؤسساتية، ومرتكزاتها السياسية، وذلك على نحو راسخ لا رجعة فيه. لكن تمثل الفئات المجتمعية لهذه المبادئ والأسس الضامنة لهوية الأمة، المكرسة لوحدتها الوطنية، لا تزال تعاني من اختلال ذي طابع ثقافي، تتكشف تداعياته على مستوى الممارسة الفكرية والسلوكية..
فالتمازج الثقافي، والتجانس المجتمعي لم يرتقيا بعد إلى مستوى الانصهار الشامل، وذلك لأسباب تاريخية، وعوامل اقتصادية وتربوية، ومفارقات جهوية وطبقية، لا يتسع المقام لتحليلها…
وتعكس الشروخ التي تتكشف، بين الحين والآخر، في النسيج الثقافي المجتمعي، وانتعاش «الهويات» المجالية أو الثقافية، في ظرفيات سوسيو-سياسية طارئة، وغيرها من ظواهر الارتكاس الثقافي في المجتمع، حدة واستمرارية هذا الاختلال الذي يعاكس دينامية التجانس والانصهار المجتمعيين، وهي الدينامية التي يفرضها ناموس التقدم، وتدفع بها سنة التحول والتبدل…
وتتضافر مفاعيل هذه الاختلالات البنيوية في حجب الرؤية البعيدة، وفي التغافل عما هو استراتيجي للتقوقع فيما هو ظرفي… وفي مربع هذه الحالة، تنتعش التوترات السياسية، وتتناسل المناكفات الحزبية بين مكونات الحقل السياسي، وهي الظاهرة التي اتخذت أبعاداً مقلقة، عقب الانتخابات التشريعية الأخيرة ، واستحوذت تداعياتها على الزمن السياسي لعدة شهور…

الملاحظة الثالثة، وتتعلق بمدلول ومغزى خطاب جلالة الملك بمناسبة عيد العرش الأخير، وهو الخطاب الذي وجه فيه جلالته نقداً صريحاً، بليغاً إلى النخب التي تتحمل مسؤولية تدبير شؤون المواطن، أو التي تؤثث منابر توجيه الرأي العام، وذلك على خلفية ما بات يطبع علاقاتها بمشاكل وانشغالات المواطنين من انفصال وتباعد…
إن القراءة الدقيقة لمدلول الخطاب الملكي لا ينبغي أن تتوقف عند عتبة «التشخيص» الملموس لواقع ملموس،وإنما تتعداها إلى استبطان واستجلاء المكنون في مدلوله السياسي، والمحمول في مغزاه الوطنية: فالخطاب ينطوي على مساءلة مضمرة، حادة، وصارمة لمكونات الحقل السياسي والحزبي بالبلاد، مما يستلزم ، من جانب النخب المُساءلَة، تجاوباً سياسياً، وتفاعلاً نضالياً في مستوى ما يواجهه الحقل السياسي من تحديات، وفي أفق ما يستشرفه من رهانات…
وفي هذا الاتجاه، فإن الهيئات السياسية، الوطنية، الديمقراطية، أغلبية ومعارضة، مُطالبة بفتح نقاشات داخلية، وإطلاق حوارات فكرية وسياسية، حول شروط ومتطلبات المرحلة، وحول تقويم وتطوير دور الحزب وإعادة تكييف برنامجه وخططه، بما يعزز مسيرة البناء الديمقراطي، ويُسّرع وتائر التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويدعم أسس الأمن ويجذر مقومات الاستقرار بالبلاد…
وفي سياق هذه المبادرات التفاعلية، المتجاوبة حقاً وحقيقة مع ضرورة إصلاح وتقويم الحقل السياسي، تتولد حظوظ، وتنضج شروط انطلاق دينامية سياسية خلاقة، تمكن من انخراط مكونات وفعاليات الحقل السياسي في إطار «ميثاق أخلاقي وطني»، جماعي، تشاركي، يسطر مبادئ الممارسة السياسة النبيلة، ويصوغ قواعد أخلقة الفعل السياسي، ويعقد «قراناً»، متيناً، راسخاً بين السياسة والأخلاق، بين الإعلان السياسي والممارسة الميدانية…
ونعتقد، في هذا المضمار، أن المغرب الذي تميز، منذ بداية الألفية الأولى، بمشروعه الوطني، الديمقراطي، التنموي، الحداثي المندمج، وقدم نموذجاً يحتذى في مجال معالجة حقوق الإنسان، عبر تشكيل وإنجاز «هيئة الإنصاف والمصالحة»في منتصف العقد الأول من الألفية، وتفرد في بداية العقد الثاني منها بمبادرته السياسية، الدستورية التي جعلت من الخيار الديمقراطي ثابتاً من ثوابت الأمة، ومن البنيان الحقوقي والمؤسساتي والحكاماتي عمراناً يؤطر الدولة، وذلك كله في مناخ غامر من التوافق الوطني، والاستقرار المجتمعي – إن المغرب الذي تفرد بهذه المكتسبات والإنجازات لجدير به أن ينكب اليوم على تعزيز صدقية حقله السياسي وتطوير منظومته الحزبية، عبر إحاطتها بسياج متين من المبادئ الأخلاقية والقيم النضالية.
وكما هو معلوم، فإن صحة ومتانة البنيان الديمقراطي رهينتان بصدقية وفعالية المنظومة الحزبية الحاملة له.
الرباط في 12 شتنبر 2017


الكاتب : ذ. محمد الاخصاصي

  

بتاريخ : 15/09/2017