تعدد السؤال وانفتاح الجواب في «الذمة المعكوسة» للقاص رضا نازه

1) ذمة السؤال:
إن الحصول على الأجوبة ضرورة حياتية والبحث عن الجواب يتطلب طرح السؤال بالضرورة، فكيف نريد الحصول على أجوبة دون طرح أسئلة؟! والسؤال نصف الجواب كما يقال.
هذا هو ما تسعى له نصوص المجموعة القصصية “الذمة المعكوسة” والذي شغل القاص رضا نازه في مجموعته الأولى هذه الصادرة سنة 2015، هو السؤال والذي سيكون شقا أو موضوعا لهذه القراءة.
إن الأسئلة في “الذمة المعكوسة” أسئلة تكشف عن أجوبتها في متن قصصها وأحيانا يتركها القاص دون جواب، بل يبتغي من وراء الصمت إشراك المتلقي في السؤال وَهَمِّ السؤال. الصمت عن السؤال؛ عن الاجابة؛ صمت يحيل على المشاركة في التفكير، صمت يحيل على صياغة أسئلة متعددة وافتراض أجوبة متعددة أخرى من منظورات مختلفة على اختلاف الجنسيات والعقليات والثقافات، وهو ما ورد في المتون القصصية للمجموعة ونلمسه جليا، إذ لا عجب أن نجد في شخصيات “الذمة المعكوسة” المغربي والفرنسي والسويسري والألماني واللبناني والمصري.. ولا عجب أن نجد كذلك جميع الطبقات الاجتماعية الهرمية من المثقف والطالب والجراح والطبيب والمدير والسائق والحارس /”العساس”…إلخ. هذا التنوع الثقافي الذي جاء به القاص يحيل على تنوع السؤال في ذهن الكاتب والتوغل في الأجوبة ومقاربتها من جهات مختلفة.
لقد اعتمد القاص في مجموعته هذه على ما يسمى بالعتبات؛ في أول عتبة جاءت بالمجموعة القصصية عنونها ب “توطئة وتنويه” يكشف فيها القاص عن اختياره لعنوان مجموعته وخلفيته التاريخية بشكل مقتضب. ومعروف أن الكاتب بإمكانه عدم الكشف عن خلفيات عنوان كتابه تاركا المجال للقارئ أن يكتشف ذلك بنفسه، إلا أن رضا نازه عمد إلى ذلك فرض عين لحاجة في نفس يعقوب.
وأنا بدوري في هذه القراءة؛ أطرح السؤال لماذا هذه التوطئة والتنويه التي لجأ إليها القاص في مجموعته؟ لماذا لم يبتدئ مباشرة بعد الغلاف أو الإهداء بأول نص قصصي كما هي عادة أغلب القصاصين والكتّاب عامة؟
لقد كان بإمكان القاص الاستغناء عن التعليل في صياغة العنوان، والجواب الممكن هو حاجة القاص لطرح الأسئلة، فتوطئته لم تأتِ عبثا أو تقزيما لمعلومات القارئ في خلفية “الذمة المعكوسة” أو “أهل الذمة،” فبالإضافة إلى خلفية العنوان التاريخية هناك مجموعة من الأسئلة التي عمد إليها القاص بُغْيَة إبراء ذمته من همّ الجواب، بمعنى أن رضا نازه في مجموعته يحاول أن يقول لنا لا تسألني أيها القارئ أنا بدوري أبحث عن جواب وأجوبة محتملة، أو تساءل معي أيها القارئ العزيز.. فالمبدع لا يكتفي بالأجوبة بل يسعى لطرح الأسئلة.
ويعدُّ أبو الفلسفة سُقراط أول من استخدم السؤال الفلسفي الذي يولد أسئلة أخرى، فالسؤال في نظره يولِّدُ الأفكار، وهو خطاب المستقبل الساعي للاكتمال والوصول للجواب الشافي. والأسئلة في “الذمة المعكوسة” تضمر أسئلة فلسفية مستمرة عبر الزمان، فكل جواب لأي سؤال فلسفيّ هو سبب في سؤال جديد يُطرح، وهو ما عرفه الفلاسفة بفن طرح السؤال وتأجيل الجواب وهو ما سعت إليه نصوص المجموعة كما أشرتُ سابقا.
ومن بين الأسئلة التي طرحها القاص في توطئته ما يلي:
– هل يصح مفهوم من هذا القبيل عنوانا لمجموعة قصصية؟
من النادر جدا في عمل إبداعي معين أن يتساءل المبدع مع القارئ هل يتوافق العنوان مع الكِتاب المنجز، فالشائع أن يتساءل المبدع بين نفسه أو بين أقرب أصدقائه بين أساتذته.. إلخ، بينما رضا نازه يكشف عن أوراقه منذ البداية أمام الجميع والجمع العام أشد وطأ، فهي بالإضافة لذمة معكوسة هي ذمة مكشوفة علنا كذلك.
– هل الحماية/”الذمة المعكوسة” كانت حدثا أم هي نمط متصل مستمر؟
إن افتراض الجواب عن سيرورة الذمة التي حكمت “المغاربة المحميين” سابقا وهل مازالت مستمرة أم لا، فإن نصوص المجموعة تجيب عن هذا السؤال بشكل ذكي يحمل سردا مشوقا ولغة ثرية، وتتجلى هذه السيرورة خصوصا في نصوص “محضر ذمة معكوسة” الذمة حاضرة بشكل معاكس بين بطلي القصة، وفي نص “جذور معكوسة” كذلك نفس الأمر يتكرر بالنسبة لبطل القصة عمر الكنتاوي.
فنجد بأن “الذمة”/ الحماية المعاكسة كشكل مضموني نمط متصل ومستمر في سيرورة زمنية وأحداثية مختلفة.
– هل نجحت المجموعة في تشخيص المفهوم المستمر بقطع النظر عن شكله البدائي أو أشكاله الأخرى المتوالدة المتوالية؟
إن إجابتي المفترضة هنا نعم، لماذا؟ لأن نصوص المجموعة شخصت المفهوم بدقة من وجهة معاكسة من خلال الأحداث والوقائع والتناقضات القائمة بين أطراف الشخصيات القصصية، كأنها مرآة لوثيقة أهل الذمة في أذهان شخصيات القصص لكن بشكل معاكس أي لا حماية ترجى من هذه “الذمة” ولازالت مستمرة.
– أيهما أسبق؟ المفهوم أم الخبر؟
طبعا لا يمكن صياغة لفظ دون حدث معين ولحصول الحدث يتوجب خبرا والعكس صحيح، فالخبر مرتبط بالحدث والحدث مرتبط بالخبر.
هنا وبطريقة تلقائية يجيبنا القاص عن سؤاله حين يقول:” لا يُنكَر فضل المؤرخ في صياغة المفاهيم المفسِّرة الملهِمة. لكن فضل القاص سابق، إذ هو حكم الأخباريّ، وأنتَ خبير أن الأخباريَّ هو مُوَرّدُ مادةِ المؤرخ الخام. والناقدُ بصير.”

2) سؤال الهوية:
يشكل سؤال الهوية سؤالا مرتبطا بسؤال الآخر في علاقة ترابطية وجودية فلسفية تقتضي توفر الأنا والآخر معا. وقد اشتغل القاص في مجموعته على عنصر الهوية من نواحٍ عدة منها سؤال الهوية بين الأنا وإشكالية الآخر؛ البحث عن هوية؛ اضطراب الهوية؛ قضية الانتماء لهوية معينة أو الاستلاب؛ ثم اللغة كمكون من مكونات الهوية.
ويحدد د.زكي نجيب محمود الهوية بأنها “لا تصان.. إلا بأن يتمسك الشعب بثقافته التي ورثها عن أسلافه، أي في العقيدة وفي اللغة وفي الفن، وفي الأدب، وفي كثير من النظم الاجتماعية” فالهوية ملازمة للإنسان مكونة لشخصيته ومحددة لمعالمه بشكل ثابت، “مما يمنح إبداعه طابعا خاصا، فلا يكون مسخا للآخرين، لهذا تعدّ شرطا ملازما للفرد، يؤثر في الجماعة ويمنحها سمة خاصة بها، لذا لا نستطيع فصل “الأنا” عن “النحن”، لأن الهوية تحقق شعورا غريزيا بالانتماء إلى الجماعة والتماهي بها، فتتبادل معها الاعتراف، وبذلك لا يمكن اختزالها في تعريف صافٍ وبسيط”
وعن سؤال الهوية بين الأنا وإشكالية الآخر فقد جنحت نصوص المجموعة لهذا السؤال عبر طرح متنوع لغويا وثقافيا وسلوكيا. نذكر على سبيل المثال قصة “محضر ذمة معكوسة” فنجد تصويرا لصراع بين شخصيتين مغربيتين، ومن خلال هذا الصراع والمشادة الكلامية بينهما تطفح هوية كل واحد منهما بغض النظر عن البلد الأم الذي ينتميان له. فالأول مغربي أمريكي والثاني مغربي سويسري، فخلف هذا الصراع تنكشف لنا ثقافات أخرى ينتمي إليها كل منهما. ورغم أن النِّزال بينهما في الأخير كشف عن هوية كلا منهما من ناحية الانتماء الجغرافي إلا أنه في المقابل يكشف عن هوية يستنجد بها كل منهما من أجل ضمان حقوقه وحمايته ورد اعتبار، لأن الهوية تحددها عدة شروط وليس الدين واللغة والمحيط الجغرافي فقط، بل تتعدى ذلك لتشكل شخصية لها بصمة تختلف عن الآخر.
ونجد بحثا عن هوية من نوع آخر عن طريق تغيير لملامح الوجه عبر عمليات التجميل ليس بسبب عيب خِلقي أو حادث مروّع خلّف أضرارا بشعة على مستوى الوجه، بل لغرض “جمالي” فقط، أو لنقل “بريستيجي” ربما.. في قصة “الجميلة والنووي”. يقول السارد: “كأنما خُلِقا من جديد أو أن صُنْعَهُما قد أعيد..” من خلال هذا القول يحاول السارد أن يفهمنا بأن بطلا القصة “غيتة” و”ريان” قد أصبحا يمتلكان وجها جديدا وهوية جديدة تتناسب مع رغباتهما خصوصا وأن بطلا القصة أحبا شكلهما الجديد ولهما استعداد لعمليات أخرى ان استدعى الامر ذلك!
ونجد اضطرابا في الهوية في شخصيات قصة “أداة نداء” إذ أن الشخصيات محكوم عليها أن تلبس هوية فرنسية داخل مقر عملها بحكم تعاملهم مع زبناء فرنسيين فحتى أسماؤهم فرض عليها التغيير من أسماء عربية إلى أسماء فرنسية أو أجنبية عموما. ونجد بطل القصة (إدريس) يصاب بنوع من الفصام حين يتم النداء عليه بين اسمه الأجنبي العَمَلي “إيريك” واسمه الحقيقي “إدريس”. يقول السارد على لسان إحدى الشخصيات: “راه مازال داخل فْ “إيريك” مْسِيكِينْ..”
وفي موضع آخر: “مازال يتمشى قاصدا محطة الترامواي الأقرب. شاردا. مازال لم يخرج من شرنقة “إيريك”
أما قضية حلم الانتماء لهوية معينة أو الاستلاب فنجدها في قصة “جذور معكوسة” مع “عمر الكنتاوي” الشاب المغربي ذو ثقافة ودراسة أمريكية والذي يُمَنّي نفسه بالانتماء لقبيلة أمريكية معينة “كونتاكينتي” في مقابل “الكنتاوي”، ثم الجد الأعلى في مقابل العم الأعلى من ناحية القرابة، كانت هذه تعليلات “عمر” الساخرة في انتمائه لأمريكا حسب قصة الكاتب الأمريكي “أليكس هالي” في “جذور”. من خلال هذا الطرح يتبين لنا أننا نعيش بين قطبين “الانشداد إلى هوية وميراث وذاكرة تاريخية، ونعيش في الآن نفسه واقع التهجين المستمر الناتج عن اختراق فضاءاتنا بوسائط سمعية _ بصرية وبترجمات وخطابات وأشياء أخرى كثيرة. الهوية في حالة صيرورة”
وإذا كان حديثنا عن الهوية التي من بين مكوناتها اللغة فإن من نصوص المجموعة التي اشتغل عليها القاص على عنصر اللغة الثانية (الفرنسية) كعنصر معيق في عميلة التعلّم أو مجال الحصول على وظيفة نجد: “أداة نداء”، “أو يهان”، “على ذمتي”. نستنتج من هذه النصوص أن اللغة الأم ليست هي الوحيدة من تحدد الهوية بل التمكن من لغات أو لهجات أخرى تساعد في تكوين هوية متوازنة إن صحّ التعبير نفسيا واجتماعيا.
الهوية إذن بصمة الانسان على سطح الأرض، إن توفرت لديه بحث في أعماقها وإن ضاعت منه بحث عنها، فهو في بحث دائم عنها سواء وجدها أم فقدها. لأن “السعي وراء هوية هو نضال وجودي يائس يهدف إلى وضع أسلوب للحياة يمكنه الاستقرار ولو لحظة قصيرة”.


الكاتب : صفاء اللوكي

  

بتاريخ : 22/09/2018

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

«هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟» مجموعة قصصية جديدة   «هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟»هي المجموعة القصصية الثالثة لمحمد برادة، بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *