جمالية التكرار .. في «هزيم المنخفض» لعبدا لله بناجي

يعد التكرار سمة من السمات الأسلوبية التي شاعت في الشعر العربي قديمه وحديثه إذ لا يخلو أي ديوان منه، هذا الحضور فسره «لوتمان» تفسيراً علمياً، إذ يرى أنّ «البنية الشعرية ذات طبيعة تكرارية» في ذاتها، إذ لا يستقيم قول شعري إلاّ به، لأنه أحد مظاهر الإيقاع وجزءا من قاعدته العامة، وطريقا من طرقه التكوينية، هذا كله لما له من دلالات فنية ونفسية، وذلك لما له من تأثير على مشاعر المتلقي الذي يتذوق المعنى ويتفاعل معه من خلال الأساليب التي يستخدمها الشاعر في الخطاب للتواصل معه وقدرته على توظيفها.
وعليه، نخلص أنّ عنصر التكرار ثابت في الشعر، يكاد يكون من أهم ما يمتاز به الأسلوب الشعري في الديوان الشعري الكوني والعربي ومنه الشعر المغربي بكل أجياله وطبقاته، ويأتي ديوان الشاعر المغربي عبد لله بناجي «هزيم المنخفض» الحاصل مؤخرا على الجائزة الوطنية للقناة الثانية للإبداع الأدبي مثالا لجمالية هذا التكرار وشعريته، أما طباعيا فجاء الديوان أنيقا وبحجم صغير يجعله قريبا من سلسلة الجيب .
إن الغارق في قصائد هذا الديوان ، يثير انتباهه توظيف الشاعر التكرار في مختلف أنواعه ، كعلامة على الوعي الإجرائي بالظاهرة كإلحاح وتوكيد، كما أن من شأن هذه الظاهرة التكرارية أن تحقيق النغمية التي تؤهل القول الشعري وتغني المعنى وتستقويه .
ومن أمثلة هذه الظاهرة، التكرار الاستهلالي أو تكرار البداية، الذي تتكرر في الكلمة أو العبارة في بداية الأسطر الشعرية، وتوكيدها بقصد الوصول إلى وضعية شعرية معينة قائمة على مستويين أساسيين، إيقاعي ودلالي معين، نقرأ في ص: 7
“ لن أمانع إن رفعت صوتك في وجهي
لن أمانع إن صفعت بوجهك
وجهي …»
هنا نلحظ تكرار النفي «لن أمانع» بمسافات متعادلة على خارطة النص، حيث يظهر متصدرا السطرين الشعريين، وكأننا بالشاعر من خلال هذا التكرار أراد أن يورط القارئ من خلال الإلحاح عليه، ليثير شهيته، وليسأل نفسه عما يمكن أن لا يمنعه هو أيضا من موقف طافح بالهزء والسخرية السوداء، بأفكاره وتأملاته مثلما مارسها الشاعر، ووفق تقنية تسمية الانحناءة بأضدادها.
ولتعزيز تنويع هذه الظاهرة يوظف الشاعر التكرار الختامي، وسمي كذلك لأن موقع الكلمة المكررة يكون في القفلة الشعرية بشكل متتالي، نقرأ في ص: 16
«لا فرق بين روما وحدود الوطن
نامت على صدر أمي وابتسمت
وأمي لا تفتأ تذكر روما
تعد الشاي … وتذكر روما»
إن التكرار الوارد في قصيدة «روما» من خلال اسم العلم «روما» سافرا بالتسمية، كان عاملا في تجسيد ما تعج به الهجرة السرية من الفرح الوهمي والقليل، إذ لا روما بالمفهوم الأمومي المتخيل والمكرر ولا هم يحزنون، لأنها يشبه تخوم الوطن الجاثمة الموت وروما الجاثمة على القتل .
وبخصوص تكرار الضمائر نلاحظ تعامل الشاعر مع كل أشكال الضمائر النحوية، من ضمير المتكلم، والغائب والمخاطب:
«أخرجوني من أحذية العساكر
فقد سئمت روائح الأرجل الكريهة
أخرجوني
من جثت
الموتى .. العابرين» ص13

ظهرت في هذا المقطع خمس ضمائر للمتكلم، وهذه الضمائر إذا تعمقنا فيه وجدناه يدس ويخفي في العمق ضميرا استثنائيا وشاقا لعصا الجماعة والآخر، لأن الشاعر يتكلم بصوته مختلفا عن بقية المستحلين للعفونة والموت الرمزي، وهذا ما يميز كل ضمير غير خائب ولا متورط في لذاته التي تفوح روائحها العطنة، وتلك مهنة الشعراء الحقيقيين.
كما تخترق هذه اللغة يخترق بذلك قلوب المتلقين حتى يشعروا وكأنهم يعيشون الحدث في لحظته.
كما يتكرر ضمير المخاطب بكثرة من خلال أفعال الأمر في القصيدة، ومن أمثلة ذلك:
تثاءبوا ..
وانسحبوا …
وتركوا الحزن معلقا
على المقاعد ..» 18
يوظف الشاعر في هذه الأسطر الشعرية ضمائر غائبة تعود على الفواعل «هم»، من خلال أفعال الماضي «تتاءبوا، انسحبوا، تركوا» بحكم فاعليتهم في تفجير دلالة الحضور الغائب، والغياب الحاضر، وبذلك تحضر اللحظة المشتركة بين الذوات الآدمية ليذهب النص في موقف آخر، إلى تعليق الحزن والقلق على مشجب الذي يأتي ولا يأتي .
في قصيدة «إنولتان» نلاحظ جليا تكرار كلمة «انولتان» مرة مما اكسبها إيقاعا ونغمية عذبة و تأكيدا للمدلولات العميقة المستفزة لهذا الفضاء الأمازيغي التي يحيل عليها القاموس التالي: «العجاج، الحضيض، العزاء، الرماد، هذا علاوة على أن تكرار «إنولتان» من شأنه» تكثيف الصور البلاغية، كما يعكس شدة التوتر في الانفعال المكبوت الذي يعسر التعبير عنه بكلمات مبسترة» حسب «جيفري فيش».
كما جاء هذا التكرار للكلمة بصيغة الفعل كما في قصيدة «مومس»:
« دمها يغلي على أرصفة الشوارع
تظهر
تختفي
تبدأ
تنتهي
تعتلي صهوة الريح» ص 14
تنفتح بنية تكرار الأفعال المضارعة في هذا المقتطف «يغلي، تظهر، تختفي، تبدأ، تنتهي تعتلي» على مشهد قولي مختلف التضاريس والمفاجآت، يتجاور فيه التجلي فالخفاء، البداية فالنهاية، لتكون النتيجة هي الاعتلاء والصعود، وبذلك تكون القراءة الأولى قد ذهبت للاستقرار عند أللاستقرار، والقراءة الثانية لتوريط القصيدة في محاولة الاقتراب مما يجري من مفارقات ومن ثمة الفهم بالاندهاش والمساءلة فالتجاوز.
في نص «نص للعراء» على تقنية التكرار المختلط وهو تكرار مستهل القصيدة في قفلتها، فالشاعر عبد لله بناجي أعاد جملة المطلع «كل النساء جميلات إلا أمي» في نهاية القصيدة ، ولا يعني هذا أنه شعريته عجزت عن التدفق والانسياب ، بل أن الأمر لا يعدو أن يكون ناتج على أن الشاعر لم تعد له القدرة على نقل أحاسيسه الخفية والأكبر أحيانا من طاقته تجاه الأم ، وحتى يترك للمتلقي فرصا وبياضات بقصد أن يشغرها وهو يعيد إخراج المطلع «كل النساء جميلات إلا أمي».
ومن أساليب وجمالية هذا التكرار في ديوان «هزيم المنخفض»، تكرار الرموز عدة مرات، حيث يتبنى الشاعر مجموعة من الرموز يمحور عليها تجربته الشعرية، ومن هذه الرموز، «المرأة، الذاكرة، الشارع، و .. يتكرر رمز» الوطن ، في قصيدة «أسماء باردة»، إذ الذي يخجل تارة:

«أستحي أن أحكي عنك يا وطني
عن الناس فيك في إحساس الغرباء ..
أستحي أن أسمي الأسماء»
وعلى الضياع والتيه تارة أخرى:
« هو ذا وطني ..
الـأشياء لا تشبه الأشياء «ص 9
جملة القول ، شكل التكرار بأساليبه في قصيدة «هزيم المنخفض» مرتكزا بنائيا يلجأ إليه الشاعر لأغراض فنية ودلالية، وأخرى أوجبتها الحاجة النفسية، ولم تقتصر الظاهرة التكرارية في الديوان على الجانب الإيقاعي المحض، بل تجاوزنه إلى الجانب الدلالي بكل ما يوحي به النص، لذلك تنوعت أنماطه بما يناسب تجربة الشاعر بحثاً عن نموذج جديد يخلق الدهشة والمفاجأة بدلاً من إشباع التوقع.


الكاتب :  عبد الله المتقي

  

بتاريخ : 22/09/2017

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

«هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟» مجموعة قصصية جديدة   «هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟»هي المجموعة القصصية الثالثة لمحمد برادة، بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *