«حتى السماء تبطئ حركاتها الفلكية، وتطلع بعض نجمات ساحرة»

عزيزي سركون بولص

لا أشعر أنني بخير، ولدي رغبة كبيرة في الاختباء. هكذا، كلما خسرت شيئا تتعاظم لدي الرغبة في التقوقع. لا أريد أن يلاحظ أحد بأنني أقضم أظافري حين أحزن. لأن عينين مشتعلتين ما زالتا تدوران داخل رأسي بنفس الغضب، حين ضبطتاني أقضم أظافري. ولأنها عادة اتفق العالم على سوئها، عالم جعلني أعيش سلحفاة مقلوبة على ظهرها. صرت أفشل في الوقوف على قدمي، أفشل في التقوقع أيضا، وكلما حاولت أن أصرخ، وجدتني أنفخ.
قبل اثنتين وعشرين سنة حدث شيء غريب أعتقد أنه يتدخل بشكل مباشر في كل ما تؤول إليه حياتي. كنت طفلة لا تتجاوز ست سنوات. شاحبة ونحيفة ولا أكبر. شقيقتي التي تصغرني بسنتين، كانت بصحة جيدة وخدود بارزة تتورد أكثر مع مرور الوقت، تكبر وقامتها يتزايد طولها إلى أن تجاوزتني. الأصغر من شقيقتي أيضا تجاوزتني. حينها انتبه العالم إلى أمري. وبدأ الجميع يقارنوني بأقراني والأصغر مني سنا. ولاحظوا أن نموي بطيء ولوني يزداد شحوبا عكس المُفترض. هذا الأمر الذي لم أنتبه له أنا، إنما قلق الجميع رسخ بذهني أنني قليلة وصغيرة وشاحبة. جعلوني أؤمن أنني أصغر من أن أكون.
حين كنت أزور العائلة الكبيرة بالقرية صيفَ كل سنة، كانت أول جملة أسمعها وهم يقبلون وجنتي، «خديجة كيف نشوفوها هاذ العام نشوفوها العام الجاي» ثم يليها سؤال يطرحه جميع الأهل: «كبرت شوية؟»
الكلمة الوحيدة التي كنت أعثر عليها مختبئة تحت لساني، وجاهزة لغلق فم هذا السؤال المتكرر كل سنة هي: «شوية»
أقولها بخجل ورأس مطأطأ، لكن الحقيقة أن هذا السؤال كان يزعجني ويشعرني بأنهم يقصدون الاستهزاء بي، لأنهم يرون كل شيء بأعينهم ولا حاجة للسؤال. أذكر مرة أنني حكيت لوالدي عما يسببه هذا السؤال من إحراج لي، وسألته بم يجب أن أرد عليهم، فقال والكلام يخرج ناعما ومدقوقا بضحكته:
«أخبريهم أنك تكبرين لكن عيونهم صغيرة، واضحكي ليأخذوا الكلام على محمل الهزل»
أذكر أنني ضحكت كثيرا، لكنني لم أتجرأ يوما على قذف ذلك الرد في وجه أي أحد. كنت أبلعه، وبدل أن يكبر جسدي، كبر شيء آخر بداخله. وحتى هذه اللحظة ما زال مستمرا في الانتفاخ.
كنت أبدو الأصغر والأخف والأكثر شغبا. «خديجة جنية، خديجة الشطبة، خديجة حمو حرامي، خديجة شنيولة، خديجة بنت الهَمْ، خديجة الأفعى القرطيطة» كلام كنت أسمعه بشكل يومي نتيجة أفعالي وتصرفاتي، لكن لسبب ما، أفَضِّل كلام والدي حين يقصد نفس المعنى « الخدادج كتطير مع الطيور»
لا أدري هل هي مصادفة أم انحياز، أم فقط والدي يعرف ما يقوله، لكنني كنت دائما أتلقف كلامه بأثر جميل وأكثر إيجابية.
لم أكن الوحيدة، كانت هناك ابنة خال لي، شاحبة مثلي ونحيلة بشكل غير طبيعي. فاجتمعت الرؤوس الكبيرة للتآمر بشأن قضية نمونا المتوقف. لا أدري. أنا حقا لا أدري كيف خطرت ببال الكبار أن يطعمونا سلحفاة برية سمينة؟ استطاعوا غدرنا بوضع طبق مرق أمامنا تسبح فيه قطع لحم صغيرة، لنأكل ونمص العظام الرقيقة بتلذذ. بينما اكتفوا بمشاهدتنا والتغامز علينا. لحسنا أصابعنا وطالبنا بالمزيد، لكن رد العالم الكبير كان مزلزلا حين قال: «كان غير فكرون واحد راكم كليتوه»
حينها تجمدت نظرة متبادلة بيني وبين ابنة خالي، نظرة توقف فيها كل شيء، ثم تلتها نوبة صراخ وبكاء. حاولنا كثيرا أن نتقيأ دون فائدة. لقد أطعمونا سلحفاة برية. لا نعلم من أين أتت وإلى أين كانت ذاهبة. ذبحوها وتبلوها وطبخوها من أجلنا، بسبب شحوبنا وصغر حجمنا. لوقت طويل اعتقدت أن قوقعة السلحفاة ستنمو فوق ظهري، بينما الكبار كانوا ينتظرون أن أكبر وتطول قامتي وتتورد وجنتاي. لكن الذي حدث، أن ابنة خالي بقيت شاحبة ونحيلة مع استمرار في الطول. وأنا، سمنت وتوردت خدودي لكنني بقيت قريبة من الأرض.
أنمو ببطء قرب الأعشاب الضارة والحصى والنمل. بينما العالم يكبر، يتجاوزني ويستمر في الابتعاد.


الكاتب : خديجة المسعودي

  

بتاريخ : 02/08/2019

أخبار مرتبطة

  رن الهاتف ، كنت في الحمام مستمرئا الدوش الفاتر، تلففت بفوطة، شربت كوبا من محلول عشبة اللويزة، موطئا لنوم

  جلست على شاطئ الحيرة أسكب المعاناة على الورق، وأشكل أمواج الغضب، تطاردها الجروح ويرافقها السؤال واحد يدعي الحضور! على

الحياة التي نحارب من أجلها… الحياة التي نمارسها أمام العلن… والحياة التي نتمنى أن نعيشها… لا علاقة لها بما نعيش

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *